جنرالان في مواجهة الأنفاق: فرانكس.. والإبراهيمي

TT

يستطيع الاخضر الابراهيمي في النهاية ان يتبادل الشكوى مع طومي فرانكس.

الاول كما هو معروف سفير جزائري سابق وديبلوماسي بارع قام بمهمات وساطة في امكنة كثيرة، وهو الآن الممثل الشخصي للامين العام للامم المتحدة كوفي انان، ويقوم بمهمة سياسية ديبلوماسية في افغانستان هدفها هندسة سلطة سياسية تخلف طالبان في كابول.

والثاني كما هو معروف ايضا جنرال اميركي اسندت اليه بعد الهجمات على نيويورك وواشنطن في ايلول (سبتمبر) الماضي مهمة القيادة العامة للعملية العسكرية التي اعطيت عنوان «الحرية الراسخة» والتي بدأت ميدانيا ضد حركة طالبان وتنهي اليوم الأحد تحديدا اسبوعها الرابع.

ماذا يربط بين الابراهيمي وفرانكس؟

لا شيء في الاساس عمليا. هذا جنرال سياسي محنك ومعروف وذاك جنرال عسكري مدرب ومعروف داخل البنتاغون. الاول يعرف افغانستان جيدا واكتوى قبل عامين بعناد اهلها وصلابة عقولهم. والثاني يتعرف الآن جيدا بافغانستان ويحاول ان يكوي اهلها ويعالج عنادهم وصلابة عقولهم بالنيران.

وقد يرى البعض ان من المثير الآن اقامة مقارنات رمزية بين مهمات الابراهيمي وفرانكس، على خلفية التعقيدات المتشابهة والمثيرة التي تميز الارض والناس في افغانستان، لكن الحد الادنى من الموضوعية يدفع الى القول، ولو مبكرا، ان صعوبة مهمات الرجلين هي التي تدفعنا الى القول ان في وسعهما الآن تبادل الشكوى.

والتاريخ الافغاني المعاصر على الاقل، لا يخفي شيئا من ميزاته ودروسه، فهو قدم ويقدم دائما لمن يريد ان يفهم او يتعظ خلاصة هي غاية في الاثارة لكنها ذات مغزى عميق:

هذه الخلاصة تقول: ان لا شيء يوازي الصعوبات التي تمليها الجغرافيا المعقدة في افغانستان الا الصعوبات التي تفرضها التضاريس الاثنية الصعبة لنسيجها البشري.

ولماذا نستحضر هذه الحقائق الآن؟

نستحضرها لأن بين مهمة الابراهيمي ومهمة فرانكس في افغانستان ما يشبه تلك العلاقة الحيوية التي تقدمها نظرية «الاوعية المتصلة» في علم الفيزياء البدائي طبعا. ليس هناك في الواقع المعلن او في التصريحات الرسمية منذ اربعة اسابيع حتى الآن ما يساعد على تأكيد وجود هذه العلاقة بين مهمات الرجلين، لكن التدقيق الموضوعي في المسارين اللذين ترسمهما المقاتلات الاميركية الناشطة في عمليات القصف من جهة، والمحادثات السياسية الناشطة في السعي الى ترتيب البدائل السياسية الافغانية من جهة ثانية، هذا التدقيق هو الذي يدفع الى القول اننا الآن بعد اربعة اسابيع على بداية الحملة العسكرية، بتنا نواجه صيغة في غاية التعقيد والصعوبة.

ان الاستراتيجيا التي تتحكم بالجهود السياسية والعمليات العسكرية تحرص على التمسك بمعايير معقدة محورها الاساسي ضبط الحملة العسكرية ضد طالبان وقواعد اسامة بن لادن على ايقاع الترتيبات السياسية لمرحلة ما بعد طالبان.. ربما يقودنا هذا الواقع الذي اثبت نفسه بنفسه، الى استنتاج غريب بعض الشيء نسوقه على شكل سؤال بريء:

هل يتم القصف على ايقاع الاخضر الابراهيمي؟

طبعا ليس المقصود ان امر العمليات يأتي من المستويات السياسية للامم المتحدة، لكن النتائج الميدانية التي يمكن رصدها حتى الآن دفعت الكثيرين من المحللين الى الاستنتاج بأن الحملة العسكرية الآخذة في التباطؤ هنا، رغم مطالبات المعارضين في الشمال بمزيد من عمليات القصف، والآخذة في التمادي هناك، رغم صيحات الاستنكار نتيجة وقوع المزيد من الضحايا البريئة، انما تسير وفق الخط الذي ترسمه حتى الاتصالات المعلنة والسرية التي تهدف الى ترتيب مستقبل السلطة في كابول، وهذا يعني الى حد بعيد ان ايقاع القنابل يخضع للنوتة السياسية التي تصور شكل الحكومة الافغانية العتيدة.

وهكذا ومن خلال هذه الزاوية بالتحديد يمكن الاستنتاج ان التعثر النسبي الذي اصاب الحملة السياسية ومن ضمنها مهمة الابراهيمي، انعكس على «التعثر» النسبي الذي يصيب الحملة العسكرية وهو ما دعا في الايام العشرة الماضية الى الحديث عن مواجهة الاميركيين «مستنقعا» في افغانستان وعن وصولهم الى «مأزق» ومواجهتهم «احباطات».

طبعا لقد تولى وزير الدفاع دونالد رامسفيلد نفي هذه الامور، ثم سارع فرانكس يوم الاربعاء الماضي، الى القول ان الحملة تسير وفق ما هو مخطط وان الهجوم الاميركي يجري وفق المواعيد التي حددتها روزنامة العملية العسكرية، لكن هذا بدا في النهاية وكأنه محاولة لاحتواء اصوات المعترضين على الحرب في لندن وباريس وحتى داخل بعض مستويات الانتليجنسيا الاميركية فيها. وهؤلاء يسندون اعتراضاتهم الى ثلاثة اسباب وهي:

اولا: نسبة الالتباسات الكبيرة التي اعتورت بعض وقائع الحملة العسكرية ومنها على سبيل المثال الغارة الفاشلة التي شنت على قافلة الملا محمد عمر وفشلت في اصابته، مما كشف عن وجود «فراغ زمني» مثير في آلية مستويات القرار العسكري ميدانيا، وهو الامر الذي تكرر عندما اطبق رجال طالبان على القائد المعارض عبد الحق الذي اعدم مما اصاب الحملة العسكرية بنكسة مهمة.

ثانيا: نسبة الاخطاء التي وقعت فيها عمليات القصف وأودت بحياة الكثيرين من الابرياء في افغانستان، والتي بلغت حدا مثيرا للاستغراب، عندما قصفت المقاتلات خطأ مواقع لتحالف الشمال مرتين متتاليتين، وكذلك عندما قصفت مرتين متتاليتين مخازن الصليب الاحمر ودمرت المواد الغذائية التي كانت توزع على المعدمين من الافغان، في وقت تجتهد اميركا لاسقاط المساعدات الغذائية لهؤلاء بالمظلات على ما هو معلن.

ثالثا: نسبة الاستغراب الكبيرة التي تقابل حديث القادة العسكريين والمسؤولين السياسيين عن الحاجة الى روزنامة زمنية طويلة للحرب قد تتجاوز عشر سنوات، في وقت يبدو ان اميركا تؤخر عملية الحسم العسكري بانتظار «حسم سياسي» على جبهة تشكيل الحكومة التي ستتولى السلطة في كابول بعد سقوط طالبان.

في أي حال كان واضحا بعد المحادثات الاولية التي اجراها الابراهيمي في باكستان، انه يواجه عقدا وصعوبات لا يوازيها شيء الا العقد والصعوبات الميدانية التي تواجهها العمليات العسكرية. وليس سرا ان ممثل الامين العام توقع سلفا ان يواجه هذه المصاعب والشروط العنيدة والصعبة التي تبرز على مستويين; المستوى الافغاني الداخلي والمستوى الاقليمي الخارجي.

واذا كانت مهمة الابراهيمي تواجه اربع لاءات على المستوى الاقليمي تبدأ من باكستان وتنتهي بايران مرورا بروسيا وحتى بالامم المتحدة نفسها، فانها تواجه اربعين او اكثر من هذه اللاءات على المستوى الافغاني الداخلي، وهو ما جعل البعض يقول عشية سفره الى باكستان انه سيكون في موقع من «جرب المجرب» ولو مكرها، حيث من المعروف انه كان قد تخلى قبل عامين عن دور الوساطة الذي كلفه به كوفي أنان لاصلاح الامور بين الاطراف الافغانية المتحاربة بعدما يئس من امكان معالجة التعنت في مواقف الجميع. من خلال كل هذا يمكن القول ان الحملة الاميركية باتت فعلا تواجه مستنقعا سواء وافق رامسفيلد على هذا الكلام.. ام لا، وان الحديث عن المآزق والاحباطات لا ينطوي على اي مبالغات ففي النهاية فان الاحتمالات المتاحة حتى هذه اللحظة لا يمكن ان تتجاوز سيناريوهين وهما: اولا: سيناريو يفصل بين الحملة العسكرية والمساعي السياسية التي بات الابراهيمي يمسك خيوطها الميدانية، وهذا الفصل يعني ان في وسع الالة العسكرية الاميركية ان تحسم الموقف، بغض النظر عن النتائج الدموية التي يمكن ان تحصل بين مختلف الافرقاء الافغان، الذين قد ينخرطون في صراعات داخلية مشابهة لتلك التي حصلت بين برهان الدين رباني (طاجيكي) وقلب الدين حكمتيار (باشتوني) عام 1993 وادت الى سقوط 20 ألف قتيل.

ولا ندري اذا كانت اميركا وقوى التحالف من حولها تقبل بان تؤدي الحملة الى نوع من الفوضى التي لا تساعد قط على تنفيذ شعار «استئصال الارهاب» الذي طرحه بوش، بل الى تأجيجه.

ثانيا: سيناريو يربط الحسم العسكري بالاتفاق السياسي، لكنه يبدو انه يحتاج الى مزيد من الوقت قياسا بالعقد والعراقيل والشروط الداخلية والاقليمية التي تواجه الابراهيمي.

ان «المزيد من الوقت» يعني المزيد من الحفاظ على وتيرة القصف التي لا تؤدي الى انهيار طالبان ولا تسبب يأس المعارضة الشمالية والتي ترد على الحاجات السيكولوجية لحرب ذات جدوى في نظر الرأي العام الاميركي الذي ما زال مشدوها امام ضربات 11 ايلول (سبتمبر).

وفي النهاية مهما كان السيناريو الذي يوضع موضع التنفيذ، فان الخلاصة العملية التي يمكن الحصول عليها هي ان وعورة الجغرافيا الافغانية تتعاون مرة جديدة مع تعقيدات التضاريس الاثنية للمجتمع الافغاني، في مواجهة حملة «الحرية الراسخة» التي تنخرط في مستنقع لا مكان فيه للانتصارات السهلة.