حق الاختلاف ومصاعبه

TT

يتساءل المفكر «اليهودي» الفرنسي جان دانيال في مقالته الاخيرة باسبوعيته «لنوفيل اوبسرفاتور» (1 ـ 7 نوفمبر) : هل «يجوز لنا ان نضع موضع السؤال قيمنا ومنطلقاتنا الثقافية لفهم الآخر والتواصل معه؟ فما البديل للحضارة الغربية ان لم يكن انتهاك حقوق الانسان وسوء معاملة المرأة واسترقاق الاطفال ونبذ الآخر؟

ويخلص من تساؤلاته الى ان الحضارة واحدة، ولا سبيل لاقرار تعددية الثقافات المتماثلة، حتى ولو كانت مقالته تفتأ تفرق بين جوهر الاسلام وانحرافات التطرف.

وبغض النظر عن الافكار والمقولات التي يقدمها دانيال، فان الاشكال الذي بادر بطرحه بجرأة، يتردد بصفة واسعة لدى الاقلام والوجوه الفكرية الغربية منذ احداث 11 سبتمبر (ايلول) الماضي التي لا شك انها محطة فاصلة في تاريخ العلاقة بين الفضائين الاسلامي والغربي، على الاقل من وجهة التصور والخيال.

وكنت عالجت في هذه الصفحة على استعجال اشكال صدام الحضارات كما يعالج في ايامنا، واوردت شهادات دالة تستحق وقفة تعليق واستكناه، بيد ان ما يهمني في هذا الحيز هو النظر ببعض التعمق في سؤال كونية او تعددية الحضارة، الذي يبدو بعيدا عن كل الحسم في المقاربات الرائجة سواء كانت باقلام عربية مسلمة او غربية.

ولا شك ان مكمن الاشكال يتمثل في تحديد مقولة «حضارة»، التي هي من العبارات التي يغطيها وهم البداهة والتداول، ونادرا ما يشعر متناولها بالحاجة الى اشكلتها وتدقيقها. وباستعراض معانيها الحافة في حقلها التداولي الواسع، يتبين لنا انها تحيل الى ثلاث خلفيات متمايزة:

ـ فهي اما العبارة المرادفة للثقافة بمفهومها الانتربولوجي المعروف، اي كل ما يتصل بالابعاد القيمية والمعرفية الانسانية (في مقابل الطبيعة).

ـ واحيانا تستخدم من منطق المرجعية الدينية، تكون اطاراً للتمايز بين فضاءات مجتمعية صاغتها تاريخيا مكونات دينية كبرى هي: اليهودية والمسيحية والاسلام والبوذية ـ الكونفيشيوسية (وبهذا المعنى استخدمها المفكر الامريكي هانتنغتون مستلهما اعمال المؤرخ توينبي).

ـ واحيانا تستخدم من منطلق رصد الهويات القومية، جريا على نهج يعود لثقافة القرن التاسع عشر الاوروبية، عندما ظهرت الايديولوجيات الاحيائية القومية وتجسدت في نموذج «الدولة ـ الامة»، ثم نفذت من بعد لباقي المجتمعات في عصور النضال التحرري وديناميكية الاستقلال (القوميات العربية، والهندية، والاندونيسية، والافريقية...).

وكما هو بين، اذا كان المفهوم الاول لا يخرج عن التحديد الشكلي اي رصد الثوابت الكبرى في الثقافة الانسانية، وكان المفهوم الثالث لا يطرح بذاته اشكالات عقدية خصوصية، في ما وراء نزعة التميز القومي المشتركة مع الشعوب الغربية، فان المفهوم الثاني (اي معيار التصنيف الديني) هو الذي غالبا ما يطرح اشكالات حادة في مستوى العلاقة بين النموذج الغربي (الذي كثيرا ما ينظر له بعض المفكرين المسلمين امتدادا لتقاليد يهودية ـ مسيحية) والوضع الثقافي المجتمعي في البلاد الاسلامية (الذي كثيرا ما يختزله المفكرون الغربيون في تقاليد واحكام جاهزة او في نزعات التطرف الديني).

بيد ان الاشكال الاساس المسكوت عنه في هذا الباب هو: الى اي حد يمكن لحضارة متغلبة ومهيمنة هي الحضارة الغربية التي قامت على فكرة الكلي واستيعاب الآخر وديناميكية التسامح والانفتاح، ان تضع موضع السؤال جوانب من قيمها وثوابتها للحوار مع الآخر والتواصل معه، خصوصا اذا كان الآخر ضعيفا، مغلوبا وتابعا؟

ان المفارقة هنا تتمثل في ان الفكر الغربي قام في العقود الاربعة الاخيرة بمراجعة واسعة للمفاهيم والمعايير التي تأسست عليها الحداثة، وعلى رأسها فكرة العقلانية التعليلية، والوضعية العلموية، والحرية المجردة، والذاتية.... كما ان الدرس الاساس الذي توصلت اليه الانتربولوجيا منذ اعمال كلود ليفي ـ شتراوس ودنريل يتلخص في رفض افضلية الحضارة الغربية وتفوقها على الحضارات الاخرى، حتى تلك التي تنعت بالبدائية والتوحش.

ان هذه التحولات الفكرية والمعرفية هي التي ولدت في الثقافة الغربية المعاصرة شعار «حوار الحضارات» الذي تبنته الدوائر الفكرية الدولية، وعلى رأسها منظمة اليونسكو.

بيد ان الترجمة الفعلية لهذا الشعار لا تزال غائبة بل ممتنعة، فكيف يمكن للغرب التنازل عن جوانب من اسسه ومرتكزاته الحضارية، ولو على سبيل الاقرار بحق الاختلاف، وهو يحتكر صناعة المعنى (يتحكم في سوق توزيعه اعلاما ونشرا).

واذا كان الامر كذلك، فما هو مضمون حق الاختلاف؟ وما هي موجبات ودلالات حوار لا يكون مع الآخر، وانما مع الشبيه المماثل من الغير؟

تلك تساؤلات عصية، لا تنفي حقيقة لا مشروعية الاستناد للخصوصيات الثقافية لتبرير الظواهر المرضية في مجتمعاتنا العربية الاسلامية من تسلطية واستبداد وانتهاك لحقوق الانسان واعتداء على الغير.