نعم للحرب على الإرهاب.. تحت مظلة المبادئ النبيلة

TT

الحرب العالمية المعلنة منذ 11 سبتمبر الماضي، ضد الارهاب الدولي قد تصبح واحدة من اقسى واطول الحروب العالمية على الاطلاق، ذلك انها لا تواجه عدوا معروفا له ارض وحدود واجواء وسواحل، بل هو كالهواء الساخن موجود داخل طائرات الحلفاء وبرلماناتهم ورسائلهم البريدية. وقد اثبتت التجارب التاريخية ان الانسان قادر على استخدام العنف والارهاب لتحقيق مآربه منذ ان عصف الشر في نفس قابيل ابن جدنا آدم فقتل أخاه هابيل في اول عملية اغتيال ارهابية على سطح الارض.

ان في استطاعة المجتمع الدولي تطويق اتساع دائرة هذه الحرب وذلك بمزيد من اليقظة وتحكيم العقل والمنطق وتبريد الاعصاب كي لا يزيد تأثرها عاطفيا بما وقع في نيويورك وواشنطن، وهو جريمة منكرة في كل الحسابات وامام كل الأديان والمجتمعات الانسانية.

وربما من حسن الطالع، ان الكرة الآن في ملعب الولايات المتحدة الأمريكية التي نعرفها جيدا، ونعرف انها جوهرة الحضارة العالمية، والديمقراطية والحرية، فلا هو علماني كما هي الحال في أوروبا، ولا هو متطرف كما هي الحال في أفغانستان. بل هو في موقع متوسط بين الجانبين. يذهب الى مصنع التكنولوجيا الفائقة التطور والعلم. ويذهب الى الكنيسة بثياب يوم الأحد المشهورة في أمريكا كأنه ذاهب لملاقاة ربه اللقاء الاخير.

يصعد الى القمر ويمشي على سطحه بأرقى واعقد واحدث الوسائل العلمية التي لم يصل اليها سواه. وعندما تهبط الكبسولة الفضائية ينصرف الأمريكيون الى الصلاة وتقديم الشكر لله على سلامة الرحلة علميا وانسانيا.

بل اننا نعرف ان الرئيس السابق رونالد ريغان سجل نصرا كاسحا على منافسه الرئيس جيمي كارتر عندما اثبت للأمريكيين الناخبين انه يذهب الى الصلاة كل أحد في حين ان كارتر اعترف بأنه لا يذهب الى الكنيسة كل أحد.

ومن حسن حظنا جميعا ان الولايات المتحدة الأمريكية متمسكة بالتعاليم السماوية والوصايا المسيحية النبيلة، اكثر من تمسكها بالعلم والتكنولوجيا، والتفوق في كافة المجالات العسكرية والتدميرية، على رغم ان التفوق الأمريكي يجعل مهمة التمسك بالمبادئ السماوية عملا في غاية الصعوبة والاهمية.

لكننا نعرف ايضا ان في داخل الولايات المتحدة، كما في كل أمة ودولة ومجتمع، أقليات ـ تكبر وتصغر ـ لا تحمل ولا تريد ان تحمل على كاهلها عبء مسؤولية السلام والمحبة على الأرض.

هناك مثلا أمريكيون متطرفون جدا من اثنيات واعراق واصول مختلفة. وهناك من البيض من يريد ان تكون الولايات المتحدة بيضاء فقط وهناك من السود من يكره الرجل الأبيض حتى الموت.

وهناك بروتستانت متطرفون نراهم ونسمعهم يدعمون الحركات البروتستانتية في ايرلندا وفي غير ايرلندا بل ان ثمة من يردد اليوم ان الحرب المعلنة ضد أفغانستان والارهاب هي حرب بروتستانتية تشارك فيها فعليا اربع دول بروتستانتية هي: الولايات المتحدة، وكندا، وبريطانيا، واستراليا.

وهناك كاثوليك متطرفون يميلون الى العرق اللاتيني اكثر مما يميلون الى الانكلوسكسوني.

وهناك مسلمون أمريكيون معتدلون، ومسلمون أمريكيون يرون في الحركات الاسلامية المتطرفة، خلاصا للبشرية جمعاء.

ولكننا لم نعرف ولو مرة واحدة، ان الحكومات الأمريكية مالت الى احد هؤلاء المتطرفين، وفعلت ما يريدونها ان تفعل.

وعلى الجانب الآخر، هناك متطرفون ومعتدلون في كل مكان.

وفي بلادنا العربية موجات ضخمة من المتطرفين الذين يرون كل من هو غير مسلم عدوا يجب محوه عن سطح الأرض.

وهناك متطرفون يسعون الى قلب انظمة الحكم الاسلامية المعتدلة وتنصيب حكومات اصولية مكانها.

وهناك في بلادنا العربية، وفي الدول الاسلامية، متطرفون يرفضون العلاقات المتوازنة بين الدول. ويطمعون الى مجتمع اسلامي لا يلبس البنطلون، ولا يعقد ربطات العنق، ولا يتعطر بعطور باريس وبرلين ونيويورك. لكن هناك اكثرية عاقلة، تؤمن بالله وباليوم الآخر وتحمل كل الاحترام للأديان الاخرى.

وعلى الجانب الثالث: هناك متطرفون داخل العديد من الانظمة الحاكمة في العديد من دول العالم.

ها هي حكومة طالبان في أفغانستان. تريد ان تطبق الشريعة (كما تراها هي) على الأفغان. وعلى الآخرين ايضا.

وهناك الحكومة الاسرائيلية التي تريد ان تكون اسرائيل دولة يهودية لا يخالطها عرب ولا مسلمون ولا مسيحيون.

وهناك روسيا التي لا تريد ان تمنح الشيشانيين أي نوع من انواع الحكم المائل الى الاسلام.

وهناك يوغوسلافيا التي كانت حتى الامس، وما زالت تفضل العرق الصربي على الاعراق الاخرى.

وهناك.. وهناك وهناك.

لكن.. هل يجوز للعالم المتقدم، الذي تقوده السياسات المعتدلة الانسانية في الولايات المتحدة وأوروبا.. والهند، والعديد من الدول العربية ان يترك لهؤلاء المتطرفين ان يعكروا صفو السلام الدولي؟..

بالتأكيد: لا.

ولذلك. فان امام المعتدلين، وخصوصا امام الولايات المتحدة الأمريكية وجميع من يشاركها سياستها الانسانية المعتدلة ان يسعوا سعيا حثيثا لوقف التطرف الأمريكي والأوروبي الناتج عن الغضب الشامل من جريمة نيويورك وواشنطن. ومحاولة تهدئة الاعصاب ثم الاشتراك مع المعتدلين العرب وغير العرب، لبناء قاعدة انسانية سليمة ومسالمة ومحبة للسلام، تحفظ حقوق الانسان أينما كان، وتلتقي جميعها على خطة دولة غير دموية للقضاء على الفساد الأخلاقي والتطرف الديني العرقي والاثني كي يمكن للعالم الخروج من المأزق الذي يحيط به وبنا من كل جانب.

ان تاريخ الولايات المتحدة نفسها، انصع دليل على ان العالم يتجه الى السلام الدولي منذ ان وضع ابطالها الاستقلاليون الاوائل وثيقة الاستقلال الأمريكي في العام 1776. ونحن نتذكر بكثير من الاعتزاز توماس جيفرسون واضع هذه الوثيقة والذي اعلن في الكونغرس الأمريكي في 4 تموز 1776 انها تمثل تعبيرا عن الفكر الأمريكي وخصوصا في مادتها الشهيرة التي تقول:

«... ان كل الناس ولدوا متساوين، وان الخالق وهبهم بعض الحقوق التي لا يمكن لأحد ان ينتزعها منهم، ومن بينها حق الحياة.. وحق الحرية، وحق السعي لتحقيق السعادة»..

وفي تراثنا الاسلامي قول لسيدنا الخليفة عمر بن الخطاب الذي حكم من سنة 634 ميلادية الى سنة 645، وهو:

«... كيف تستعبدون الناس وقد ولدتهم أمهاتهم احرارا..؟».

ان هذه المبادئ بالذات وفي طليعتها: المساواة والحرية بقيت تطبع سياسة الولايات المتحدة على مر السنوات الثلاثمائة الماضية.. وحتى اليوم وقد دفع ثمنها ابطال أمريكيون عديدون، في طليعتهم الرئيس الشهيد ابراهام لنكولن الذي نقرأ على قاعدة تمثاله في واشنطن نص اعلانه الشهير الذي القاه في 19 نوفمبر 1863 بمناسبة تدشين ساحة من ساحات مدينة يسبورغ التي شهدت معارك الشمال والجنوب لتكون مقبرة تذكارية للذين لقوا مصرعهم فيها. فقد قال لنكولن: «... منذ 87 عاما جاء آباؤنا الى هذه القارة بأمة جديدة ارضعت لبن الحرية، ووهبت نفسها لقضية تؤمن بأن الناس جميعا قد خلقوا متساوين...».

واما صانع مقولة النظام الدولي الجديد فهو بلا شك، الرئيس الخامس للولايات المتحدة جيمس مونرو (1816 ـ 1824) وصاحب مبدأ مونرو الشهير الذي كان يدرك بعلمه الغزير ونضاله المرير ضد الاستعمار البريطاني لبلاده آنذاك، ان الاستقلال عن الاستعمار، وعدم التدخل في شؤون الدول هما اهم مبادئ الحرية والمساواة. وقد حافظت الادارات الأمريكية المتعاقبة على مبدأ مونرو ومارست نفوذها ـ حيثما تمكنت ـ لمنع أي من هذين المبدأين من الانتشار بين الدول. وقد حاول الرئيس جورج بوش الأب ان يبني من جديد سياسة أمريكية تتجه نحو نظام دولي جديد قائم على السلام العادل والشامل بين الأمم.

وبعد...

فان شواهدنا كثيرة على ولع الأمريكيين بالحرية والمساواة والديمقراطية والتعامل بصفاء وشفافية مع الشعوب الاخرى. ولذلك، يحدونا الأمل الكبير بأن المجتمع الذي خرج منه جورج واشنطن وتوماس جيفرسون وجيمس مونرو.. وايزنهاور وجورج بوش الأب.. والابن، لن يبخل على العالم بمنح نفسه المزيد من التروي، والمزيد من الاصرار على استئصال الارهاب بكل انواعه وفروعه، ومبرراته، جنبا الى جنب مع الدول العربية والاسلامية والمجتمعات المحبة للسلام، والعازمة بكل اصرار على المساواة والحرية والعمل بمعزل عن الاعصاب الثائرة والنوايا المبيتة.