الأيوبي يرش عطره على بونابرت

TT

أحيانا يحلو للأقدار التي تمنح النبض للتاريخ أن تستغني عن ألسنة تجيد النطق، وأن تتجاوز أصابع ملكت فن التدوين، كي تقدم الإجابة التي تريد والدفاع الذي ترتضي، فنجد تبعا لذلك أنفسنا وجها لوجه أمام حقيقة مكر التاريخ! والأقدار التي نقصدها هي تلك التي جعلت معهد العالم العربي بباريس يفرغ من تحضير معرض ضخم عن القائد التاريخي صلاح الدين الأيوبي. ذلك ان فكرة المعرض انطلقت منذ عشر سنوات عندما احتفلت اوروبا بميلاد الحروب الصليبية فثارت غيرة بعض حاملي الدم العربي فولدت فكرة انشاء معرض يشهد بعظمة الحضارة الإسلامية، ولكن نمو الفكرة لم يكن لحسن الحظ سريعا ولم يحصل الاكتمال إلا في الاشهر القليلة الماضية، وكأن المعرض على موعد سري مع القدر، ومع الحقيقة، في ظرف تبدو فيه صورة هذه الحضارة متدحرجة ومتناثرة ومزورة.

والذي يتجول في كنوز هذا المعرض المناسب في الوقت المناسب ويطيل الوقوف والدهشة أمام 250 قطعة اثرية تعبق بصدق الشهادة، ستنتابه إن كان عربياً حالة من الحزن عندما يعي انه يعيش حاضراً لا علاقة له بماض مشرق وقوي، وسيعيش هذا الزائر العربي حيرة ورغبة في فهم اسباب التراجع ودواعي التهميش. أما اذا كان غربيا فسيتمتع بروعة الفن الأيوبي، ولن تهدأ مقلتاه وهما تنتقلان منتشيتين بجمال القطع المجلوبة من مصر وسوريا وأمريكا ومن مقتنيات خاصة في اوروبا، الا عندما تتسرب الى نزهته بعض روائح كريهة من خلفيات غرسها المستفيدون من انهيار الثقل العربي الإسلامي.

ومع أن كلتا الحالتين تسر زائر المعرض وتكدره في الوقت نفسه، من حيث لا يدري، فإن المسؤولة عن الجانب الاسلامي في متحف اللوفر والمستشارة العلمية للمعرض تلح في مقالة لها ضمن الملف الصحفي على نقطتين اثنتين، اولاهما ان صلاح الدين الأيوبي من أصل كردي، والثانية ان المعرض يحتفي بفن الايوبيين ويقدم ملامح من عصر السلالة الايوبية، وما تحقق من ابداعات في مجالات مختلفة تشمل فن العيش والتألق الثقافي والعلمي والديني، أي أنه غير مكرس لشخصية صلاح الدين الأيوبي.

وبغض النظر عن هاتين النقطتين، وما تتضمنانه من معان واضحة ومخفية، فإن المعرض الذي يتواصل الى شهر مارس (آذار) المقبل سيسجل جملة من الاهداف الهامة بالنسبة الى المسلمين والى المسيحيين، كما ان للعرب نصيبا وافراً من الاستفادة من هذا المعرض. فالايوبي صاحب حلم توحيد العالم الإسلامي، وهو المدافع عن الإسلام بمحبة المؤمن الكبير وهو من انتشرت في عهده مدارس تدريس الفقه وهو من جعل من الوحدة السياسية لسوريا ومصر قلعة السنية. كما ان عهد الأيوبيين هو ما اجمع المؤرخون على اعتباره زمن النهضة الجديدة التي شملت انتصارات جمة بدأت بالقضاء على النظام الفاطمي والانتصار على الزنج وطردهم من سوريا وتواصلت باستعادة القدس من الفرنجة عام 1187. ولم يكتف الايوبيون بالانتصارات والأمجاد العسكرية التي تشهد ببراعة فنون الحرب لديهم، بل ان العلم عاش توهجه وانتشرت الفلسفة الوحدوية على أيادي الكبار مثل السهروردي وابن عربي وابن الفارض وغيرهم.

إن احياء مثل هذا الماضي لاستعادة نافورة القوة يضع العالم العربي في موضع المسؤولية وفي موقف مخجل لا يمكن تجاوزه بطأطأة الرأس، بقدر ما يجدد حلم استعادة النهضة الجديدة لتتحول الى نهضة متجددة يكون فيها الجهاد من أجل الكرامة التي تؤيدها كل الأديان.

أما العالم الغربي فهو بالفعل في حاجة ماسة إلى هذا المعرض كي يعالج ما علقت بمعرفته من شوائب تخص العالم العربي الاسلامي، إذ ان الجمهور الأوروبي والامريكي ايضا يعتقد ان لا شيء في جرابنا التاريخي غير الجمل والخيمة والشمس الحارقة، وهي ممتلكات لا تمثل شيئا مقارنة بتاريخ حضارة متكونة من حقبات ومحطات تأكل بصر المؤرخ.

ومن حسن الحظ ان الغربيين بدأوا يحسون بالعطش المعرفي ازاء العالم الاسلامي. ومثل هذا المعرض المتقن والمتسع والشامل الى حد ما، يمكنه ان يسد بعض الرمق، وان يذهب شدة العطش، ذلك ان صلاح الدين الأيوبي من بين أهم الرجال الذين عرف معهم الاسلام العظمة والازدهار، الشيء الذي يجعل من معرض «شرق صلاح الدين» نافذة معرفية، وايضا حلبة يجدد منها صلاح الدين الأيوبي العهد مع الصراع والنضال والجهاد والمقاومة، لتنقية عقل العالم من السموم التي تحاول وسائل اعلام عديدة بثها، ولعل آخرها هو الملف الذي فتحته مجلة «التاريخ» الفرنسية في عددها الأخير، حيث سلطت الأضواء طيلة صفحات عديدة على شخصية حسان الصباح وقدمته كإرهابي عربي قديم ظهر قبل تسعة قرون وفي شهر سبتمبر الأسود ايضا.

إن هذا المعرض، الذي يثلج الصدر، لهو جولة هامة ضمن حرب ثقافية دينية لا يستطيع أكبر الديماغوجيين إنكارها، أو ان يمنع صلاح الدين من ان يرفع شعار الاستثناء الثقافي الاسلامي في بلاد نابليون بونابرت، وفي بقية جغرافية المخيال الغربي.

* كاتبة تونسية