تحذير الخواص!

TT

هذا العنوان ليس مني، فهو جزء من عنوان كتاب قديم معروف للمرحوم جلال الدين السيوطي، أما العنوان الكامل، فهو «تحذير الخواص من أكاذيب القصاص». كان رحمه الله يحذر من المنقول عن السلف، فليس كل منقول مصدقا ويطابق الواقع. خطر لي هذا العنوان بعدما سمعت وقرأت ما قاله اثنان من أركان حكم معمر القذافي بعد انشقاقهما عنه، ومن ثم قتله. وهما بالتحديد السيد عبد الرحمن شلقم، والسيد عبد السلام جلود.

في بعض ما قالاه إدانة لهما، إن لم تكن إدانة قانونية، فهي على الأقل إدانة سياسية. حقيقة الأمر، سواء في ليبيا أو في غيرها من الدول التي مر عليها ربيع العرب، من أجل بناء مستقبل جديد، لا بد من بناء ماض جديد. ولبناء الماضي بشكل جديد يتوجب الاعتراف بالأخطاء المدمرة التي ارتكبت في السابق.

الاثنان السيد شلقم والسيد جلود كانا (من ضمن عدد من الرسميين الليبيين المنشقين أو المختفين)، جزءا من ذلك النظام الذي ربما تعجز اللغة عن وصف سلبياته وفظائعه وجرائمه. فيقال لنا الآن إن 80 في المائة من دخل النفط الليبي ذهب في الأربعين عاما الماضية على مغامرات ومؤامرات وتخريب وشراء ذمم، المهم أيضا أن يعرف الجميع أن 80 في المائة من الدخل الليبي المقبل سوف يذهب إلى إعمار ما خربته حرب أهلية طاحنة استمرت ثمانية أشهر، وقتل فيها عشرات الآلاف من المواطنين.

إن فعل الماضي هو استمرار لفعل الحاضر. المعلومات - إن صدقت - التي أدلى بها الرجلان مهولة، ولا يصح أن يقال إن شخصا واحدا، هو معمر القذافي، قد قام بها وحده، فذلك أمر لا يقبله العقل السليم، هناك منفذون وهناك موافقون وهناك من علم بالجرم ولم يرفع سبابة ولا إبهاما للاحتجاج حتى السلبي، لقد كان القذافي صنيعة أناس زينوا له الطغيان فطغى. إن شهداء الاستبداد القذافي ونظامه ليسوا فقط من قتل في الحرب الأخيرة، حرب التحرير، هناك عشرات من الناس الليبيين وغير الليبيين هم شهداء ذلك الاستبداد على طول رقعة الكرة الأرضية. وما عرفناه حتى اليوم مِمَن تكلم علنا، أن مؤامرات في أفريقيا وفي السودان حيكت، وفي البلاد العربية أضرمت، مولها نظام القذافي بمعرفة من المقربين منه، وتحت شعارات مختلفة لها إضاءة في عقولهم وليس لها تأثير في ضمائرهم أو علاقة بالقيم الإنسانية العامة المتعارف عليها.

يقول السيد جلود إنه ذهب إلى الصين لشراء تقنية نووية، فقيل له إن ذلك يتطلب قاعدة بشرية وعلمية وبناء تحتيا للدولة لا يتوفر في ليبيا، لم يفهم الرجل مبكرا تلك النصيحة الصينية، فاستمر مع شريكه يشتري الولاءات ويوزع أموال الشعب الليبي المقبلة من مصدر نابض، على المغامرات وعصابات القتل والإرهابيين الدوليين.

لقد دخلت ليبيا، تحت إمرة القذافي ومجموعته المناصرة له، العالم بعقل قروي ساذج امتزجت فيه توليفة خطيرة، هي المال والجهل، حتى في الحرب الأخيرة، نقل عن القذافي تهديده طائرات حلف الناتو بأن يسلط عليهم السحر، وقيل أيضا إن من بعض الأشياء القليلة التي وجدت معه قبل مقتله، مسدس ذهبي ولفافة بها بعض المشعوذات من أجل حمايته. لا يستبعد من شخصية مهتزة مثله أن يؤمن بالشعوذة والسحر.

لعل من أولى أولويات الحكم الجديد في ليبيا إعادة الذاكرة التاريخية للشعب الليبي وللشعوب التي أُضيرت من ذلك الحكم، عن طريق كشف الحقائق مهما كانت مُرّة، فقبل البكاء وقبل الضحك، لا بد من العودة إلى المنظومة البشرية والمؤسسية التي أتاحت فرصة لهكذا شخصية مضطربة الوصول والبقاء في الحكم طوال هذه العقود، وبتصفية المعارضين على أي أرض أقاموا، وخلف أي جدار احتموا، وكأن حياة البشر أو موتهم لعبة يتسلى بها الطاغية بين تصفيق محازبيه.

انتصار الشعب الليبي الحقيقي هو بكشف المستور السابق وعرضه على الملأ، ليس من أجل الشماتة أو التشفي، ولكن من أجل منع تشكل مثل تلك الظروف التي خلقت نظاما متهورا ومجنونا، وحولت الدولة إلى عصابة، وأخذ الحيطة من تركب تلك الظروف من جديد.

ليس المهم الآن أن نسمع من الذين غادروا السفينة نصائحهم، المهم أن نعرف لماذا بقوا كل تلك المدة مناصرين للقتل والإرهاب الذي شنه النظام السابق وأهدر فيه من الأرواح والأموال ما لا يعوض.

في كشف ذلك المستور الذي يحتاج إلى قرار شجاع، نجنب آخرين في عالمنا العربي التصفيات وأعمال الإرهاب وشراء الأزلام لاستخدامهم في المهمات القذرة.

مع الأسف، فالبنية الثقافية العربية لم تُهيأ حتى اليوم لكشف المستور والمسكوت عنه من طغيان في الأنظمة الشمولية، السابقة أو اللاحقة، من صدام حتى القذافي، مرورا بسلسلة الطغاة، ويمكن من جديد أن تعاد تلك الفظائع من تحت شعارات أخرى، إن سمحنا للبعض ممن شارك في الفظاعات، بتبييض أفعال الطغاة من خلال تبرئة النفس، التي كانت أفعالا (في حدها الأدنى) مشاركة للظلم والإظلام.

آخر الكلام:

غدا عيد الأضحى المبارك، وشهداء الاستبداد العربي الذين ضحوا بأرواحهم بلغوا، في تقدير المؤسسات الدولية، أكثر من خمسين ألف قتيل، وأكثر منهم من الجرحى، لهم المغفرة ولأهلهم ومواطنيهم العزاء.