قنديل أم هاشم

TT

في «قنديل أم هاشم» ليحيى حقي، من روائيي عصر نهضة مصر، يكتشف الطبيب المتدرب في ألمانيا سر تدهور عيون مرضاه الأميين، وهو لجوؤهم إلى دجال يقيم في السيدة زينب يقطر الزيت من قنديل أم هاشم، الذي تضيء شعلته مسجدها، في عيون المصابين بالرمد لأن «بركة السيدة» ستشفيهم.

كانت وزارة الصحة في العهد البرلماني الملكي تنتج الأفلام التعليمية لرفع مستوى الوعي الصحي، بينما وسع وزير المعارف طه حسين برامج محو الأمية لمحاربة الجهل الذي حول قنديل أم هاشم من وسيلة إضاءة إلى مسبب لفقدان البصر.

ومنذ غروب «التربية والتعليم» على نهار «المعارف» قطر الدجالون زيت القنديل في أذهان أجيال ما بعد 23 يوليو (تموز) ليفقد العقل الجماعي بصيرة المنطق والقدرة على تناول أدوات العلم؛ فاستبدلتها الأجيال بالغيبيات وخزعبلات أشباه المثقفين. وآمنت الأجيال بخرافات تاريخية كحقائق لا تقبل النقاش، سأعرض بعضها على سبيل المثال.

«وعد بلفور»: شعار شبت عليه الأجيال من المحيط إلى الخليج كمفهوم ألصق ببريطانيا تهمة «سلب فلسطين ومنحها لليهود».

طوال أربعة عقود لم أصادف بين المثقفين العرب من يعرف تفاصيل حكاية «وعد بلفور» أو قرأ النص كاملا إلا اثنين ضمن بحث رسالتيهما للدكتوراه.

لن تجد في الوثائق Balfour Pledge أو Balfour Promise (المقابل لكلمة «وعد»). فقط إشهار بلفور Baflour Declaration وهو تسمية صحافية لخطاب ضمن عشرات المراسلات أثناء الحرب العالمية الأولى بين ساسة بريطانيين ويهود وعرب. أشهرهم الأمير فيصل، زعيم الثورة العربية (ملك سوريا ثم ملك العراق فيما بعد) وكان من المعجبين بحاييم وايزمان، (لاحقا أول رئيس لإسرائيل) رئيس المنظمة الصهيونية العالمية (وبدأت كحركة تحرر ومساواة قومية لليهود لا تختلف في الجوهر عن غيرها من حركات القوميات كالبعث مثلا عند القوميين العرب). أحدها خطاب من فيصل يستعين بوايزمان وخبرته ليؤسس العرب حركة «تحرر ناجحة كالحركة الصهيونية». الوثائق تضمنت وعد فيصل لوايزمان في باليرمو عام 1913 «بوطن قومي لليهود في المملكة العربية المتحدة من المتوسط حتى الخليج». وأشهر الوثائق خطاب وزير خارجية بريطانيا وقتها اللورد آرثر بلفور، عام 1917 إلى البارون والتر روتشيلد، كبير يهود بريطانيا وعبارة «تنظر حكومة جلالته بعين العطف إلى توطين اليهود المضطهدين.. إلخ إلخ» وبشروط أهمها عدم المساس بالحقوق القومية والسياسية والمدنية للفلسطينيين الأصليين وغيرهم.

مناهج التعليم الناقصة في يد معلمين لا يعرفون اجتهاد البحث العلمي والتاريخي قرأوا نصف الآية «ولا تقربوا الصلاة...». وتحت يافطة ترجمة خاطئة «وعد بلفور» زرعوا في عقول الأجيال خرافة مسؤولية بريطانيا، لا مسؤولية الديكتاتوريات العربية في رفض إعلان فلسطين المستقلة وشن الحروب.

لم أسمع بمعلم مصري أو عربي طلب من تلاميذه البحث في الوثائق عن نص رسالة بلفور ناهيك عن مراسلات الحرب الأولى.

كم من المثقفين العرب - كمثال آخر - يردد ببغائيا «بريطانيا العظمى» بمفهوم العظمة الإمبراطورية، في حين أنها تعني «الكبرى» جغرافيا لا سياسيا؟

آلاف الجزر البريطانية أكبرها مساحة (إنجلترا وإمارة ويلز واسكتلندا) بريطانيا الكبرى Great Britain ومع أيرلندا الشمالية وبقية الجزر تكون وحدة سياسية هي المملكة المتحدة.

جزيرة طنب الكبرى محل النزاع الإماراتي الإيراني اسمها Greater Tumb (حرفيا طنب العظمى) وطنب الصغرى Lesser Tumb. لكن أشباه المثقفين زرعوا الخرافة في العقول.

المثال الآخر: قنديل التخمين. فبدلا من البحث المعرفي عن هوية أو ثقافة مفكر لم نلتق به بل عرفناه عبر الصحافة يبدأ التخمين second guessing من مجرد الاسم.

«فهلوة»، رفض الاعتراف بنقص المعلومة تدفع للتخمين «فالتخنين» (بأي خانة نصنفه) «فالتخوين»، بدلا من البحث في «غوغل» مثلا.

ولعل السبب غياب منهج تدريب التلاميذ على البحث المستقل في أنظمة تعليم سيطرت عليها ثقافتان شموليتان: الديكتاتورية السياسية؛ وبعض المرجعيات الدينية المتطرفة. تحرمان الاجتهاد لأن البحث في مصادر أخرى يعني التشكيك في النص؛ والتشكيك خيانة للنظام «الوطني» أو كفر بالمعتقدات.

إذا كان الاسم عربيا نخمن أنه لا بد «عربي»، وبالضرورة مسلم.

والويل له إذا وظف أدوات تحليل غير عربية/ إسلامية، أو استشهد بمصدر معرفي غربي، فلا بد أنه خائن للعروبة، وربما يكفر كمرتد عن الإسلام.

مثلا الاسم «نظير علي» لا بد أن يكون عربيا مسلما حسب نظرية قنديل أم هاشم للتخمين. أدخل الاسم على محرك بحث، تكتشف أنه من كبار أساقفة الكنيسة الإنغليكية.

جيل ما قبل قنديل «التربية والتعليم» في الإسكندرية، حيث كان المصريون المسلمون أقلية (الأكثرية العرقية كانت اليونانيين) اعتادوا الزيجات المختلطة بين أديان وأعراق متباينة تتحدث لغات مختلفة؛ ولذا لا تجد سكندريا من مواليد قبل 1955 يقع في خطأ فهلوة تخمين الأسماء.

وقد يكون المفكر مصريا من عائلة مسلمة، بتعليم غربي أسس إطاره المعرفي. وبفهلوة دجال قنديل أم هاشم يبدأ التخمين، فتخنينه كمصري مسلم، فتخوينه وربما تكفيره لتلاعبه بأدوات معرفة لا مصرية/ لا إسلامية؛ ولو بحثنا عن اسمه عبر «غوغل» لتجنبنا إثم الظنون وعرفنا أنه غربي التعليم.

مثلا مأمون فندي دكتور علوم سياسية رغم اسمه المسلم ومحل ميلاده في أعماق الصعيد؛ فهو أميركي الجنسية. وكأميركي التعليم من البديهي أن تكون أدوات تحليل الظواهر السياسية في ورشة الدكتور فندي مصنوعة في جامعة جورج تاون وليس في جامعة أسيوط.

أعداء الديمقراطية وأعداء فكرة مشاركة المصريين مزدوجي الجنسية أو المتعلمين غربيا في بناء مصر بعد ثورة اللوتس، يستخدمون هذه الميزة التاريخية الجغرافية ضد أمثال الدكتور فندي (رغم أنه في حب مصر أكثر وطنية من معظمهم) لأنه «يقلد الأميركان ويتعالى على ثقافتنا». ولو كتب الدكتور فندي اجتهاداته باسم مستعار «أرنست كلارك» كانوا سيترجمون تحليلات «الخواجة الأميركاني اللي بيحب مصر» ويضعونها على الصفحات الأولى مهللين، ويظهر منتقدو فندي في التلفزيون يشرحون نظرية الدكتور الأميركي كلارك ويناقشون طروحاته لمعالجة المشاكل المصرية.

إجبار المتعلمين فرنسيا أو إنجليزيا، لمجرد أن أسماءهم عربية أو إسلامية، على استخدام أدوات تحليل مصرية أو إسلامية، كإجبار المزين على استخدام مطرقة الحداد بدلا من المقص لتهذيب شعر الزبائن.

فإعادة البصيرة للعقل الجماعي ليست بفهلوة تنقيط زيت قنديل أم هاشم بل بعلاج طبيب متخصص في أمور التنوير.