نايف «القوي الأمين».. في مكانه الطبيعي والطليعي

TT

من باب الأمنية، أو من باب الاعتزاز، كنا نود أن تكون الفضائيات ووكالات الأنباء العالمية واسعة الانتشار، وجيدة المصداقية، حاضرة - بوعيها كله ومهنيتها الكاملة - في مشاهد بيعة الشعب السعودي للأمير نايف بن عبد العزيز وليا للعهد: مشاهد الأمواج البشرية المتدافعة لعقد البيعة.. وكنا نود - في الوقت نفسه - أن يتوغل مراسلو هذه الفضائيات والوكالات بين المواطنين السعوديين وأن يوجهوا إليهم - مثلا - هذه الأسئلة الصريحة:

أ) من ضغط عليكم وأكرهكم على المجيء - ها هنا - لتبايعوا نايف وليا للعهد ونائبا لرئيس مجلس الوزراء؟.. وما هي - بالتحديد - وسائل الضغط والإكراه التي مورست عليكم؟.. وما هي الجهة - بالضبط - التي قامت بهذه الممارسة؟

ب) ما هو المبلغ الذي دفعته الحكومة لكل واحد منكم مقابل بيعتكم للأمير نايف؟

لن نتعجل - من تلقاء أنفسنا - في الجواب عن هذه الأسئلة، فالمقصد منها هو فتح أفق التفكير الحر أمام العقل السعودي وغير السعودي لكي يتوصل - بمقاييسه المنطقية - إلى الجواب الموضوعي، عما إذا كان هناك ضغط أو إكراه على البيعة، أو كانت ثمة رشاوى مالية مقابل البيعة.

بعد هذا المدخل - الملائم لموضوع المقال - نضغط هذا المقال في محورين رئيسيين:

أولا محور: الرجل المبايَع، وهو الأمير نايف بن عبد العزيز ولي العهد السعودي نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية.. فكما كثر المفتون في الشأن الديني بغير علم ولا دراية ولا تثبت، كثر المفتون في الشأن السياسي أيضا بلا علم ولا خبرة ولا تثبت. وكثر المفتون - من ثم - في المسؤولين السياسيين.. وبالنسبة للأمير نايف تبارى المفتون الجهلة أو المتعجلون في وصفه، وهو وصف بلغ حد التناقض في الأوصاف، مما يدل على أن هؤلاء المفتين السياسيين يفتقدون المنهج الموضوعي، ويفتقدون النزاهة الأخلاقية. وبهذا الفقدان لا يكون لوصفهم أي قيمة معلوماتية أو تحليلية.

من أغرب أنواع هذه الفتاوى السياسية الجهول، أن الأمير نايف معاد للغرب، وفي حقيقة الأمر لا يمكن وصف الرجل بهذه الصفة.. لماذا؟ لأنه رجل عاقل حصيف، وهاتان الصفتان تحملان صاحبهما - دوما - على تكثير الأصدقاء، وتقليل الأعداء، لا على العكس، ولأنه - من جانب آخر - مسؤول كبير في بلد تميزت علاقاته بالاستواء والاحترام والحيوية والمصداقية بالعالم كله - بما فيه الغرب - ونايف في ذلك مقتد بوالده المؤسس العظيم الذي كان شديد التمسك بمبادئه، واضح السيادة والاستقلال في تعامله مع الآخرين، قوي الحرص على مصالح بلاده ومصالح الدول التي يقيم علاقاته معها، وهو منهج مؤصل - إسلاميا – بقوله، رحمه الله تعالى: «إن للدول الأجنبية المحترمة علينا حقوقا، لهم علينا أن نفي لهم بجميع ما يكون بيننا وبينهم من عهود.. (إن العهد كان مسؤولا).. وإن المسلم العربي ليشين بدينه وشرفه أن يخفر عهدا أو ينقض وعدا، وإن الصدق أهم ما نحافظ عليه. إن علينا أن نحافظ على مصالح الأجانب ومصالح رعاياهم محافظتنا على أنفسنا ورعايانا بشرط ألا تكون تلك المصالح ماسة باستقلال البلاد الديني والدنيوي». نعم نايف بن عبد العزيز شديد التمسك بالمبادئ التي تقوم عليها المملكة، قوي الاعتزاز بذلك.. ولا يمكن - ها هنا - أن يوصف بأنه «تابع» للغرب، أو مسارع في هواه (وفرق ضخم بين الأهواء والمصالح).. والتمسك بالمبادئ واستقلال القرار لا يعيب رجلا في قامة الأمير نايف.. فالسؤال المنطقي والأخلاقي - هنا - هو: هل على المسؤول الكبير - لا سيما في دولة مبادئ - أن يكون «بلا مبادئ»، أو أن يكون متأهبا للتنازل عن المبادئ عند كل صيحة؟!.. إن الذي يفعل ذلك هو الذي يتوجب الخوف منه، بمعنى أن الذي يتلاعب بمبادئه، لا يصعب عليه التلاعب بمصالح الآخرين. ففي حقيقة الأمر، فإن «الثبات المبدئي الأخلاقي» هو (الضمان الأقوى) للمصالح الحيوية، ونسيج العلاقات الدولية. فالمصالح والعلاقات تقوم على المعاهدات والمواثيق، ولا قيمة لذلك كله إذا تجرد من العنصر الأخلاقي. وتاريخ البشرية - قديمه وحديثه - برهان قاطع على هذه الحقيقة. ثم إن العلاقات الخارجية هي سياسة دولة، وليست آراء مسؤولين أفراد.

وفي غير غلو نقول: إن الخصائص الرئيسية التي يتميز بها نايف بن عبد العزيز هي: الثبات على المبدأ في السراء والضراء.. والتمسك بالقيم على كل حال.. والثقافة المتنوعة الرفيعة المُعِينة على تكوين رؤية سديدة.. والرؤية المتوازنة للإقليم والعالم، وخلاصتها: التعامل مع الآخر، الإقليمي والدولي، من أجل تبادل المصالح الاقتصادية والأمنية والسياسية والعلمية مع احتفاظ كل بلد بمبادئه وثقافته واستقلاله وسيادته.. وهذه رؤية حملتها وعبرت عنها مضامين ميثاق الأمم المتحدة (من الديباجة إلى المواد الأخرى).. زبدة هذا المحور - المستقى من رؤية الأمير نايف – أنه لا معاداة للغرب، ولا مقاطعة له، ولا ذوبان فيه أو تبعية له.. وتمام المحور أن الملك عبد الله بن عبد العزيز قد أحسن - أيما إحسان - في اختيار الأمير نايف - من قبل - نائبا ثانيا لرئيس مجلس الوزراء، فهو اختيار دقيق الحساب، بعيد النظر. صحيح أن مبايعة نايف وليا للعهد قد انعقدت في هيئة دستورية هي هيئة البيعة، بيد أن القرار المبكر للعاهل السعودي كان يحمل دلالات عميقة لا تخفى على ذي فطنة.

ثانيا: المحور الثاني مختص بـ«البيعة».. إن البيعة هي «العقد الشرعي» بين الحاكم والمحكوم، وهي بيعة جوهرها (التراضي التام) بين الطرفين. ولذا كان من صيغ البيعة المعتد بها - في مشروعية الحكم: «بايعناك بيعة رضا على إقامة العدل والإنصاف والقيام بفروض الإمامة».. ومن دلائل التراضي في البيعة أن يسارع إليها الناس «بإرادتهم الحرة»، أي بغير إكراه ولا غصب، وبغير إغراء مالي يفسد ضمائر الذين يبايعون. ذلك أن للبيعة جانبا تعبديا دينيا وهو: إشهاد الله - عز وجل - على الإخلاص له في البيعة.. ومن نواقض الإخلاص لله: الإكراه على البيعة، أو إفسادها بمغريات مالية.. وهذه لازمة عبادية من لوازم البيعة الإسلامية، لا تتحقق في الانتخابات الديمقراطية.. ثم إن البيعة الشرعية ليست تفويضا على «بياض» لمن انعقدت له البيعة، بل هي مشروطة بشروط رئيسية، من أولها وأهمها شرط العمل بشريعة الإسلام، وهو شرط لا تتحقق عقيدة التوحيد إلا بإنفاذه: «اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء».. وشرط رعاية مصالح الناس كافة: التعليمية والعلمية والاقتصادية والإدارية والأمنية والسياسية والصحية والاجتماعية والبيئية والداخلية والخارجية.. فإذا وفّى ولي الأمر المبايع بهذين الشرطين الرئيسيين وجبت طاعته - في غير معصية - وتعينت نصرته.. يقول ابن جماعة المالكي - في تحرير الأحكام: «إذا فعل ذلك، فيجب بذل الطاعة له في كل ما يأمر به وينهى عنه إلا أن يكون في معصية، وبذل النصح له والقيام بنصرته، وبذل المجهود في ذلك لما فيه نصرة المسلمين وإقامة حرمة الدين وكف أيدي المعتدين، وإعانته على ما تحمله من أعباء مصالح الأمة ومساعدته على ذلك بقدر المكنة قال تعالى: «وتعاونوا على البر والتقوى».