قلب الزلزال.. وامتداده

TT

أن يقال في أي مكان من العالم بأن عملية السلام بلغت حد الاحتضار النهائي واليائس، فهذا قول لم يعد يثير أي قدر من الدهشة أو الاستغراب، فهو بالضبط المعزوفة المميزة للواقع المعيش.

إلا أنه يبلغ مرتبة الإنذار، حين ينطلق من فم رجلين، لا يشك أحد في حرصهما على السلام ومصلحتهما فيه، واستعدادهما للذهاب بعيدا من أجل تحقيقه، ودون أن أقول سلاما عادلا أكتفي بالقول سلاما متوازنا وموضوعيا، يلبي احتياجات ورغبات الشعوب ويوفر استقرارا مطمئنا في المنطقة ويبعد بالتأكيد خطر الحرب والاضطراب وزعزعة الأمن وتهديد المصالح.

الرجلان هما محمود عباس الواقع في مركز الزلزال، ويليه الملك عبد الله الثاني الواقع في أقرب امتداد له، أي الجغرافيا الطبيعية والسياسية والاجتماعية اللصيقة بالمركز التي مهما بذل من جهد لدرء المضاعفات، إلا أن حقيقة أن تدمير بيت في نابلس أو الخليل أو القدس لا بد أن يصيب بيتا ملاصقا في عمان وأربد والزرقاء بالتشقق.

محمود عباس الذي حمل التحذير من صاعق التفجير وطاف به العالم كله حتى استقر به الأمر أمام الباب المغلق بإحكام في مجلس الأمن، دخل دائرة الاستحالة المزدوجة.. استحالة أن يحصل من مجلس الأمن على ما رغب وتمنى.. بفعل التصويت الغامض للأعضاء.. الذي يضاعف من بلاه جاهزية الفيتو الأميركي القطعي، مع استحالة استئناف المفاوضات وفق شروطه حتى المتساهلة منها، أمام التعنت الإسرائيلي الذي يجسده ثنائي ليبرمان - نتنياهو. أي ثنائي الاستيطان والتشدد السياسي.

ويراقب عباس مجريات معركته المعقدة والصعبة، ويرى طريقة إسرائيل في التعامل معه، حيث الهجوم المباشر عليه بلغة لم تستخدم إلا في الماضي مع عرفات، التي وصلت إلى أقرب نقطة من التهديد المباشر بالقضاء عليه معنويا وماديا وهذا ما حذر منه هو شخصيا ومساعدوه. ووراء اللغة المتمادية في التصريح وليس التلميح تكمن المعضلة الأعمق، وهي رؤية عباس للولايات المتحدة التي كانت ولا تزال محل رهان لإنقاذ ما بقي من حطام المشروع التفاوضي، وهي تتكيف مع الاشتراطات الإسرائيلية وتعمل على تسويقها للجانب الفلسطيني تحت عنوان «أقصى المراد لاستئناف المفاوضات» سواء عبر الرباعية ذات الطروحات البائسة والمستحيلة، أو عبر الإدارة ذاتها أو حتى عبر أفضل الأطراف الأوروبية التي علقت عند نقطة المفاوضات المباشرة دون شروط مسبقة.

إن عباس الذي يرى كل ذلك مجسدا أمامه بصورة صريحة وحادة يبدو كما لو أنه بحاجة إلى معجزة كي ينفذ من بين التعاريج الراهنة، أو كي يخترق الجدر الإسمنتية الصماء من حوله، وهو يعلم كذلك أن شعاره لا بديل عن المفاوضات إلا المفاوضات، لم يعد منطقيا أمام الإصرار الإسرائيلي والأميركي على أن المفاوضات تعني الذهاب إلى الموائد دون قيد أو شرط، ولا ضمانة من أن تظل المفاوضات في واقع الأمر من أجل المفاوضات ليس إلا.

إن الرئيس عباس مضطر إلى مواصلة الحركة على مستوى العالم خوفا من الجمود وعلى مستوى الرباعية خوفا من ارتداد العزلة إليه، إلا أنه لا يملك أي مسوغ للتفاؤل بأن الأفق المرئي يحمل علامات تفاؤل سياسي أو تفاوضي.

وما دمنا وصلنا إلى هذه النقطة في تحليل موقف عباس، فمنها يصلح الانطلاق إلى تحليل موقف الملك عبد الله الثاني الذي لم يتوقف عن التحذير من مضاعفات انهيار المشروع السلمي إلا أنه نادرا ما كان يستخدم مفردات تدل على يأسه من الإنقاذ وبعث الحياة في المشروع المحتضر، لقد قال أخيرا وبصريح العبارة «إنه لم يعد متفائلا بعملية السلام».

ربما يكون قالها كثيرا بصيغة أو بأخرى، إلا أن هذه الدرجة من الصراحة مع التوقيت، وضعت أمام المنطقة والعالم حقيقة سياسية لا يجوز تجاهلها ولا يجوز اعتبارها مجرد تكرار لأقوال ربما يذهب الظن إلى أنها قيلت أو تقال من أجل حث العالم على الحركة وفق قوانين اللعبة الجارية.

الأردن.. بحكم عوامل كثيرة وأساسية ليس مجرد دولة أو مجتمع مجاور لفلسطين، وأن الصلات أعمق من هذا الوصف الدبلوماسي السطحي للواقع وحين قلت إذا كانت فلسطين مركز الزلزال فالأردن ليس مجرد محيط له وإنما امتداد.. فقد استرجعت من الذاكرة ما جرى على مدى نصف القرن الماضي وقبل ذلك، من عشرات الصيغ والترتيبات التي هدفت إلى احتواء الخطر المشترك أو التصدي له أو التقليل من خطره، إلا أن هذه الترتيبات جميعا لم تبلغ حد النفاذ إلى جذور العلاقة ولا إلى تفادي التأثر المباشر بما يحدث في هذا الجزء أو ذاك من أجزاء الزلزال وامتداداته. وحين يواصل ملك الأردن وظهير فلسطين الأقرب تحذيره من الخطر المحدق، وإن بدا كامنا لبعض الوقت فإنه يحذر مما هو أبعد من المساس المباشر بالأردن دولة ومجتمعا ودورا، بل إنه يوسع زاوية الرؤية والتحذير لتشمل الشرق الأوسط، من خلال الموقع المميز للمملكة الهاشمية في حضن المشرق العربي.. ودلونا على بلد مهما كبر أو صغر لا يتصل بالدولة الأردنية كحالة مميزة قبل أن نتحدث عن الجغرافيا والناس والأمن بمفاهيمه وقوانينه الحديثة.

لقد صمد الأردن في وجه رياح عاتية منذ تأسيسه وواصل صموده بفعل المكانة والدور وأداء لعبة التوازن في أخطر الظروف، ولا أخالني آتي بجديد حين أقول ذلك، بل إنني أذكر بحقائق التاريخ والسياسة والجغرافيا وحتى الاقتصاد، وواقع المجتمعات في أي مكان وأثر هذا الواقع في صنع السياسات والمصائر.. أذكر بذلك في وقت نرى فيه الخطر ليس خلف الأبواب بل مع كل ذرة هواء في المنطقة كلها مما يستلزم فهم الإفصاح عن اليأس ومغزاه، وما يمكن أن ينتج عنه لو لم يتم تدارك الأمر. ومن ينبغي أن يفهم أولا.. هي القوى الداخلية في الأردن المعروفة دائما بالاعتدال التي تأثرت بالربيع العربي وخاضت كفاحا مطلبيا عادلا لم تكن قد غادرته أصلا منذ زمن، وأن يفهم كذلك من قبل النظام الذي إلى جانب تحذير رأسه من الخطر أشار إلى حتمية الوئام العميق والمستقر مع المجتمع كشرط بقاء للنظام والكيان والدور، ومن حول الأردن فإن إسرائيل هي العنوان الأول والأخطر الذي توجه إليه الرسائل عادة في أمر كهذا.. فلتتوقف إسرائيل أولا عن التطفل الساذج على هذا الكيان الحساس والمهم بتصدير بعض البدع والمقولات التي لا هدف منها إلا زرع الشكوك وإعاقة الوئام الداخلي والموضوعي مع الآخرين ولعله لم يأت من فراغ تشخيص الملك للفهم الإسرائيلي المغلوط لما يجري في المنطقة والنتائج الكارثية التي ينطوي عليها هذا الفهم الذي هو في واقع الأمر ليس مجرد فهم إسرائيلي أكاديمي بقدر ما هو على نحو ما مؤشر سياسي وسلوكي للحاضر والمستقبل.

عودة إلى العنوان حول الزلزال وامتداده.. فإذا كان هذا الوصف حقيقيا وموضوعيا بفعل قراءة هادئة للعناصر التاريخية والجغرافية والمجتمعية، فإن بعدا جديدا أضيف إليه، وهو المتغيرات المتسارعة في العالم.. تلك المتغيرات التي ربطت وبدرجة وثيقة السياسات والكيانات والمفاهيم والاعتبارات حتى بين البلدان المتباعدة ثقافيا وجغرافيا.. فكيف والحالة هذه تبدو العلاقة الموضوعية بين الأردن وفلسطين ومخاوفهما المشتركة، واطمئنانهما المشترك كذلك.