الاستقرار السياسي: رحل سلطان وجاء نايف

TT

الاستقرار ليس رغبة لكل سياسي بقدر ما هو ضرورة لكل واعٍ وحاجة لكل فرد، وهو مطلب صعب تكتنفه الكثير من المخاطر والمزايدات، إنه يحتاج لتاريخ ممتد، ونجاحات متوالية توازيها رؤية واعية وقدرة على التطوير، ولئن غفل البعض عن قيمة الاستقرار التي لا تمس الأوطان إلا بقدر ما تمس الإنسان، وذلك أنهم يعتبرونه مسلمة وشأنا طبيعيا، فلا يستحضرونه حين النقاش ولا يعيرونه مزيد اهتمام ساعة الحوار.

الغارقون في الفوضى والمشتوون بلظى الاضطرابات يعرفون قيمة الاستقرار أكثر ممن ينعمون به، إنه للغارقين في الفوضى حلم، وللمشتوين بالاضطرابات أمل، هكذا خبر التاريخ وحديث الواقع.

في المشهد العربي الحالي، حيث الاحتجاجات أو الثورات اجتاحت بلدانا عربية 3 هي: تونس ومصر وليبيا، وصلت فيها لمرادها هناك بطرق متباينة، ودولتين لا تزال تعتمل فيهما، هما سوريا واليمن، ولكل منهما ظروفها، بدأ يظهر على السطح، وفي التصريحات والتعليقات، أن الاستقرار هدف جديد ربما يبدو بعيد المنال، مع اختلاف ظروف كل بلد، ولكنه في النهاية هو الهدف الأهم لصانع القرار الجديد في تونس أو للممسك المؤقت بزمام الأمور كما المجلس العسكري في مصر، أو للرجل العادي في تلك البلدان.

لماذا كل هذا الاهتمام بالاستقرار في العالم العربي؟ وما دور الحرية والديمقراطية معه؟ أيهما أهم وأولى؟ للجواب عن هذا التساؤل، ليس علينا أن نعيد الأحجية المعروفة حول الصراع بين أولوية التنمية أم أولوية الديمقراطية، فالحل ربما يكمن في الجمع بينهما، بل علينا النظر في الفرق بين الشعارات المرفوعة والنجاحات على الأرض، والتاريخ العربي يمنحنا شيئا من القدرة على المقارنة، بين دول اختارت لنفسها التسمية بـ«الثورية» ورفعت شعارات شتى وفشلت فشلا ذريعا في أغلب سياساتها وقراراتها، وهي في الحقيقة كانت انقلابية عسكرية بحتة، وبين دول كانت، ولا تزال، ملكية وراثية، ولئن لم تكن ديمقراطية بالمعنى الكامل الذي أنتجه الغرب، فإنها لم تكن دموية في يوم من الأيام.

كان هذا حديث ما مضى، ولكن حديث الواقع مختلف، ففي حين تشهد بعض البلدان ذات الماضي العسكري الانقلابي احتجاجات ضخمة أودت ببعض الأنظمة وبعضها تنتظر، تشهد بعض البلدان العربية الأخرى استقرارا مهما، وتتطوّر ذاتيا باتجاه الأصلح لدولها وشعوبها.

سعوديا، قيل عن الأمير سلطان الكثير، وكتب عنه الكثير، وكانت مشاريعه الكثيرة، ومواقفه المختلفة، وسماته الشخصية، محل تركيز لدى الكثيرين. لكن، الأهم في تاريخ الأمير سلطان هو «سلطان السياسي» كما كتب عبد الرحمن الراشد (24 أكتوبر «تشرين الأول») في هذه الصحيفة، ذلك أن أدواره السياسية الكبرى التي لعبها في تاريخ المملكة العربية السعودية على مدار ما يزيد على خمسين عاما، داخليا وإقليميا ودوليا - إن من خلال مناصبه المتعددة وموقعه السياسي وإن من خلال موقعه العسكري، وإن من خلال مواقعه الأخرى، معرفيا وأكاديميا وخيريا - هي الأبلغ تأثيرا والأبقى أمدا.

داخليا، كانت له مواقف حاسمة في لحظات اختلال بعض التوازنات، والتوفيق بين الأطراف الفاعلة، سياسيا ودينيا وشعبيا، والخروج بنتائج ومواقف كانت شديدة الصعوبة في لحظتها التاريخية، ومن ثم متابعتها حتى ضمان وصولها لأهدافها النهائية التي تضمن وحدة الوطن ومستقبله، ويمكن استحضار بيعة الملك فيصل ودوره الكبير فيها كمثال.

إقليميا ودوليا، السعودية دولة تعيش في إقليم مضطرب ذي تنازعات شتى، وتحالفات متنقلة، ومشاكل سريعة التغير والتقلب، وهذه طبيعة الأوضاع السياسية، فكان بناء القوة الذاتية التي تحمي المملكة من النزاعات الإقليمية، وبناء التحالفات الكبرى في العالم مهمة غير سهلة، وقد حملها الأمير سلطان على كتفيه، فبنى قوات مسلحة قوية تحمي وتدفع كل طامع أو طامح، ودوليا رعى وخطط لصفقات كبرى مع دول مهمة في العالم، إن في الغرب وإن في الشرق، مستمرة وغير منقطعة، بمعنى ربط مصالح طويلة المدى مع الحلفاء الأقوياء في العالم، تؤمن علاقات عسكرية واقتصادية، أي سياسية في المحصلة النهائية.

ولوعيه بالمعرفة، أنجز موسوعته العالمية.. ولوعيه بالأهمية الأكاديمية، أنشأ كراسي أكاديمية تحمل اسمه داخل المملكة وخارجها.. ولوعيه الخيري، أنشأ مؤسسته الخيرية. وهي أدوار مهمة وفاعلة ومؤثرة، ولكنها جميعا كانت نابعة من سلطان كقائد سياسي.

من أهم مؤشرات الاستقرار السياسي ثبات المشروعية السياسية ووحدة القيادة والقرار وقوة النظام التي تحمي المجتمع وترعاه والتي تدعم سيادة الدولة، ومن المؤشرات بالتأكيد سلاسة انتقال السلطة. وفي هذا السياق، كانت سلاسة انتقال ولاية العهد إلى الأمير نايف قرارا ملكيا سريعا، وكان في إشارة البيان الملكي لنظام هيئة البيعة، وفي إطلاع الملك لهيئة البيعة على قراره ضمانة لبناء تقليد ملكي جديد في انتقال السلطة بسلاسة عبر التصويت في هيئة البيعة، وهو ما يعني صمام أمان للمستقبل.

لم يأت هذا القرار ارتجاليا، ولكنه قرار مدروس كان ينتظره السعوديون ويتوقعونه، فالأمير نايف رجل دولة من الطراز الأول، وتجربته عبر عقود مضت في كافة مناصبه تشير لزعيم سياسي قادر على رسم الرؤى والاستراتيجيات وقادر على متابعة التنفيذ وصولا للنجاح.

لم تكن الملفات التي تولاها الأمير نايف سهلة بحال، إن في أحداث الحرم المؤسفة مطلع القرن الهجري الجديد، وإن في الاحتجاجات الدينية بعد حرب الخليج الثانية، وإن في أحد أكبر التحديات التي واجهت الدولة السعودية الثالثة المتمثل في ما يسمى «تنظيم القاعدة في جزيرة العرب»، لقد نجح في إدارة كل تلك الأزمات ببراعة خبير والتزام مسؤول، وكان آخرها النجاح الكبير في تفكيك تنظيم القاعدة في السعودية وتشتيت أفراده بين سجين وشريد. وهو ما أشادت به الكثير من دول العالم.

إن منصب ولي العهد سيمنح الأمير نايف اطلاعا واسعا على كل شؤون الدولة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، داخليا وخارجيا، وبالتالي مسؤولية أكبر هو لها أهل، لتثبت السعودية لشعبها وللعالم أنها دولة مستقرة سياسيا تطمح للأفضل وتتبنى الإصلاح والتطوير.