حضرات الدكاترة والأساتذة والعمداء

TT

كانت هناك صناعتان حول «فكر» الأخ قائد الثورة: عربية وأجنبية. الأولى كانت أكثر حياء وخجلا. رئيس هيئة أهل القلم باللغة الفرنسية، البروفسور أدمون جون، وضع كتابا عن القائد يصفه فيه بأنه «نبي» و«رجل رؤية». والبروفسور جون هو أيضا الأستاذ الذي أشرف على الدكتوراه التي منحت لعائشة القذافي.

يعدد ألكسندر نجار في كتابه «تشريح طاغية» أساتذة الجامعات الفرنسية والسويسرية والبريطانية الذين شاركوا في الندوات التي عقدت لمناقشة مؤلفات القذافي من «الكتاب الأخضر» إلى «الهرب إلى جهنم». حتى صحيفة في سمعة «الموند» لم تنج من دراسة أفكار العقيد التي تناولتها مطالعات عدد من الأساتذة والصحافيين الفرنسيين واللبنانيين والمغاربة والفلسطينيين وسواهم.

بالنسبة إلى المؤلفين الفرنسيين فإن العقيد كان معجبا بفولتير ومونتسكيو وجان جاك روسو وجميع مفكري الثورة الفرنسية. وفي مقابلة مع أدمون جون قال العقيد إنه قرأ بإعجاب وتأثر إبراهام لنكولن وسان يان سن (أبي الأمة الصينية الحديثة). لكن في خطابات وكتابات ومؤلفات القائد لم يظهر أي أثر لكل هذه الأسماء. ولا حتى لبعض المفكرين العرب الذين ادعاهم وضم أسماءهم إلى إضبارته الثورية.

ورعى القائد الكثير من المجلات ودور النشر. وفرض على مجلدات عن تاريخ أفريقيا حذف اسم إدريس الأول وتعديل التاريخ، مع أن المجموعة صدرت عن اليونيسكو. وخصص جائزة ضخمة باسمه كان بين الذين قبلوها، مع الأسف، أحمد بن بيللا، الذي طالما أوكل العقيد إليه مهمات الترويج وتبديل الحقائق.

مع كل حدوث من النوع الجاري تطرح قضية المثقف والسلطة، أو المثقف والديكتاتور. أي: إما الرعب أو المال، أو الاثنان معا. والحل الوحيد المتوافر في العالم العربي كان أن يختار المثقف الصمت والنأي عن أن يصطف في طابور الظلم والوشاية والشراكة في التنكيل وأهرامات وإهراءات السجون. ولكن الغربيين الذين اختاروا، طوعا ووضاعة، المشاركة في صنع كذبة فاقعة في هذا الحجم، فبأي ذريعة فعلوا؟ جميعهم كانوا بغير حاجة مادية. وأكثرهم كانت له سمعة أكاديمية رفيعة. والسويسري جان زيغلر، مثلا، كان من أشهر الأساتذة والكتاب. يكون شعور المثقف بالذنب مضاعفا، حتى إذا صمت أو نأى. فلا الصمت من حقه ولا النأي من ترفه. ولكنه يعيش في عالم محاصر أيضا بصمت الذين يريد الدفاع عنهم. وهكذا يجد نفسه غالبا وحيدا وفي تواطؤ عبثي، بين الديكتاتور وضحاياه. أتمنى أن يأتي يوم نعرف لماذا سلمت القاهرة منصور الكيخيا وسلمت الرباط عمر المحيشي وهما تعرفان سهولة القتل في الجماهيرية. أليست هذه معضلة المثقف في كل مكان: الضحايا أكثر استبدادا من الديكتاتور؟ ألم يعد سولجنتسن من المنفى الطويل والسجن المريع، ليجد موسكو لم تعد تتذكر من هو ولا ماذا فعل؟