اقتراح أمني لن يتحمس له أحد

TT

عندما تتكسر كل مصابيح الشارع وتسود الظلمة لا أشعر بالفزع لأني أحتفظ في سلسلة مفاتيحي بمصباح صغير يعمل بالبطارية، هو على الأقل يرسل بصيصا من الضوء يساعدني على مواصلة السير، غير أني في هذه اللحظات بالذات لا أتمنى أن تضاء بعض مصابيح الشارع، بل أحلم بأعظم نظام للإنارة عرفه العصر الحديث، الأحلام لا حدود لها ولا غنى عنها فبها وحدها نستطيع إنجاز الكثير على الأرض. نحن نعاني في مصر، كلنا وليس البعض منا، وقعت كل الأطراف في فخ الكلمات والكلمات المضادة، القلق والتوتر وعدم الإحساس بالأمان دفعت المشتغلين بعلم الكلام العام إلى إقامة عشرات التحالفات ثم فكها بعد لحظات بعد أن عجز الكلام الذي يظنونه حوارا، عن دفعهم للتعاون مع بعضهم البعض. هو خطأ شهير عند كتاب الدراما الهواة، يخلطون بين الكلام والحوار غير مدركين أن الحوار هو ما يصاحب الفعل ويمهد له وينتهي به. أفكر في فعل يشعر الناس أن تغييرا قد حدث أو هو على وشك الحدوث، تغيير يشعل جذوة الأمل في قلوبهم. ترى من أين نبدأ؟

أفكر في المؤسسة الأمنية المصرية، الجميع يشكون من انعدام الأمن، من غيابه، واقع الأمر هو ليس غائبا، الغائب فقط عند طلابه وعند منتهكيه، هو الإحساس بالأمن، ذلك الشعور العميق بأن هناك من سيخف إلى نجدتك، وعلى الطرف الآخر، الإحساس بأن هناك من سيطاردك إلى الأبد وأنه سينجح حتما في القبض عليك.. من هنا نبدأ، هذه فرصة تاريخية لبناء مؤسسة أمنية عصرية تسري منها العدوى إلى بقية المؤسسات. عندما يتمزق ثوبك فلا داعي لرتقه، عليك أن تغيره، انزل إلى السوق واحرص على شراء ثوب جديد صنع من أجمل الخامات وأقواها، علينا أن ننزل إلى أسواق الدنيا المعاصرة لشراء مؤسسة أمنية جديدة، مؤسسة لا تقل عصرية وقوة عن أية مؤسسة أوروبية، والسوق التي أحلم بها وأفكر فيها طول الوقت ليست سوق العتبة بل سوق أوروبا، أوروبا ليست مكانا جغرافيا، بل هي سوبر ماركت كبير يعرض كل خبرات البشر وأرقى ما وصلت إليه العقول، وإلى جوار ذلك هي ضمير العصر نتيجة لنضالها الطويل عبر التاريخ لصنع هذا الضمير، نحن في حاجة لهذه المؤسسة تماما كما هي في حاجة إليها. لست أتحدث عن التعاون بيننا وبينهم لإنجاز هذا المشروع، فالتعاون بين أجهزة الأمن المحلية والعالمية موجود دائما، بل أتكلم عن بناء مؤسسة أمنية مصرية بمرجعية حضارية أوروبية، وهو ما يحتم أن يشتركوا في تحمل مسؤولية إدارته. هذا المشروع هو أعظم مجالات الاستثمار في مصر. إن وجود مكتب لمستشارين من الاتحاد الأوروبي في وزارة الداخلية المصرية، مستشارين مشاركين في صنع القرار اليومي، أمر يشعر سكان الأرض جميعا بالمزيد من الطمأنينة.

لست أتوقع أن توافقني على ما أفكر فيه، بل ربما تتهم الكاتب بأنه يريد إعادة الاستعمار إلى مصر، يريد إعادة الحكمدار الإنجليزي إلى القاهرة، اطمئن.. أنا فقط أريد التخلص في مصر ليس من فلول النظام بل من فلول الأفكار، وأذكرك بأنك حتى الآن تستعين بالحكام الأجانب في إدارة مباريات كرة القدم المهمة، والأمن في مصر لا يقل أهمية عن أية مباراة. الأمر فقط يتطلب التواضع، غياب التواضع أفسد علينا كثيرا من مجالات الحياة.

لقد تطلب الأمر أكثر من أربعين عاما لكي نكتشف أن فكرة جنود الأمن المركزي خاطئة من أساسها، وكانت خاطئة طول الوقت وساهمت بقوة في القضاء على هيبة الدولة عند المواطنين (لا أريد أن أسهب في ذلك فلدي من الحياء ما يمنعني من وصف حالهم وأحوالهم وتأثير صورتهم في الوعي واللاوعي الجمعي) المطلوب فقط هو نخبة الرجال والنساء مدربة تدريبا عاليا وقادرة على الانتقال في دقائق إلى أي مكان في طول الوادي وعرضه، وهو ما يحتم وجود قسم جديد في الشرطة المصرية للطائرات الهليكوبتر.

نخبة لديها كل ما لدى الشرطي في أوروبا وأولها أجهزة اتصال متطورة، وأسلحة، وأجهزة رؤية ليلية وسترات واقية من الرصاص، ومعامل عصرية تتيح لها استخدام العلم للعثور على الأدلة، بدلا من تعذيب البشر للوصول إلى اعترافات. السؤال هنا هو: هذا المشروع يتطلب مبالغ طائلة.. ماذا يدفع الاتحاد الأوروبي لدفعها؟

سيدفعها على هيئة منح وقروض لحاجته هو أيضا للأمن في جنوب البحر الأبيض المتوسط، وفي المنطقة العربية ككل، ولكن ذلك لن يحدث قبل أن يتأكد من أن ظروفنا السيئة نجحت في تخليصنا من التظاهر والادعاء، من المستحيل أن تكون جادا بغير أن تكون متواضعا، التواضع وحده هو ما يجعلنا قادرين على رؤية ما نحن عليه في الواقع. أعرف بالطبع أن ذلك أمر صعب للغاية بالنسبة لمسؤولين تربوا على قاعدة «حسنة وأنا سيدك». أو قاعدة «إحنا أجدع ناس في الدنيا.. بس الزمن جار علينا»، الواقع أن الزمن ليس له صلة بما يحدث لنا، فزمننا هو ذاته زمن الآخرين الذي ينجزون فيه ويبدعون في حماية أنفسهم. وفي غياب التواضع وفي وجود الإحساس بأوهام القوة تنتشر أقوال من نوع «ارفع راسك انت مصري» مع أن البشر في بقية شعوب الأرض من حقهم أن يرفعوا رؤوسهم على الرغم من أنهم ليسوا مصريين.

ليس في كل ما أقول أو أفكر فيه تقليل من شأن خبرات ضباط الشرطة المصريين وخاصة في مجال البحث الجنائي، ولكن هناك شيئا لا ينقصهم وحدهم بل ينقص المؤسسة التي يعملون بها. كلنا نريد التغيير، وجميعنا قادرون على الصياح: أين هو التغيير؟ كما لو أن شعبا آخر مسؤول عن إحداث التغيير عندنا.

الواقع أن التغيير لا يحدث نفسه بنفسه، البشر والبشر فقط هم القادرون على صنعه، وبين صيحات المطالبين بالتغيير، ستجد أن فئة واحدة هي المستمتعة بالواقع ولا تريد له تغييرا، فئة وحيدة تتفوق علينا لأنها تعرف جيدا ما تريد، وتعرف جيدا طريقها لتحقيقه، البلطجية وقطاع الطرق. هم براغماتيون من الطراز الأول، لا أحد فيهم تنتابه لحظات الحيرة التي انتابت هاملت من قبل: أن أكون بلطجيا أم لا أكون.. هذا هو السؤال..

هو لا يشعر بضعف تجاه الرموز ومنها مصنع الحديد والصلب على سبيل المثال وهو أحد مفاخر ثورة يوليو، فتراه يأتي بالسيارات واللودرات ويقتحم أسوار المصنع ويسرق إنتاجه ويحمله على السيارات بعد أن يقيد بالحبال موظفي الأمن المساكين الذين لا يحملون سلاحا، في الغالب هو نوع جديد يسمى الأمن الحاف.

يا لها من لحظات تعسة عندما استمعت إلى مداخلة في برنامج تلفزيوني يقول صاحبها: بقى لنا عشرة أيام بنبلغ عن السرقات دي، وما حدش بيسأل فينا.

المذيع: أنت بتشتغل إيه في المصنع؟

..: أنا مدير الأمن يا بيه.

(فاصل موسيقي)