هل يواجه العالم العربي تحدّيات النمو المتقلّب؟

TT

منذ حلول عقد الستينات الماضي، كتب الكثير عن ضرورة تحقيق التناسق الإقليمي، والتكامل الاقتصادي سعيا وراء سوق مشتركة في العالم العربي. وبرزت عدة مؤسسات تسنى لها النجاح بمستويات متفاوتة كجامعة الدول العربية أو مجلس التعاون الخليجي، فيما يُنتظر أن تبرز أخرى كسوق وعملة مشتركة لمجلس التعاون أو اتحاد مغاربي فعّال. لكن ما يسترعي الانتباه هو عوامل التغيير التي ظهرت تلقائيا للعيان لأنها المحرك الأساسي للمنطقة اليوم.

أوائل قواعد التحركات الاجتماعية بدأت تموضعها في العالم العربي لردح طويل من الزمن، كما بدا للكاتبة منذ 11 عاما، عندما تنادى طلاب الجامعة الأميركية في بيروت للتواصل وتأسيس مبادرات اقتصادية لا ربحية في المنطقة، تتوخى إنشاء شركات على الإنترنت والظهور في إطلالات تلفزيونية مناطقية تضم نخبا شبابية من المغرب حتى عُمان إلى العراق. وكان ذلك تحولا ملموسا من زمن كانت فيه الشبيبة العربية تفتقر إلى تقنيات تواصلية تتجاوز الفواصل الجغرافية وتستخدم التكنولوجيات الجديدة. لكن البريد الإلكتروني والرسائل النصّية أخذت بسواعد الشباب العربي إلى تلمّس خُطواته عبر المنطقة خلال العقد الماضي، ثم أتت بقية وسائل التواصل بما فيها «فيس بوك» و«تويتر»» لتساعدهم في نقل أفكارهم وأصواتهم عبر الحدود والفواصل.

واليوم، يبرز نموذج جديد في العالم العربي، يتمظهر ببطء، بقليل من الانسجام وليس دون سقطات، لكنه يتقدم بثبات. ومع التقدم، سيتعقد تجاهل التباينات الاقتصادية والسياسية بين البلدان بفضل تواصل الشباب العربي عبر حدوده المختلفة. وفيما وضحت صورة معدلات النمو ومستويات الحياة المتباينة منذ الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، يتحتم أن تشكّل المنطقة العربية المتقدمة بسرعتين مختلفتين مسؤولية معقدة تتعاظم تباعا، كما سنرى أدناه.

أين يقف العالم العربي عقب ثورات هذه السنة؟

هناك خمس مجموعات بلدان تمثّل بدقة ما يتبلور من الصيغ الجديدة وإن بخطوات متفاوتة. ولادة هذا «النموذج الجديد» سوف تنتجها عوامل إقليمية بعضها ماثل للعيان الآن، والبعض الآخر بحاجة إلى التسريع، ولا بد أن تكون هناك تكلفة تمويلية سوف تتحمل معظمها البلدان العربية نفسها، بسبب ضعف وجود التمويل العالمي.

المجموعة الأولى بين هذه البلدان هي تلك التي يحدث فيها التغيير بعد الثورات التي ساورتها. ولا بد أن تنخرط تونس ومصر بل ربما سوريا والجزائر في هذه الفئة. والتحدي القادم لهذه البلدان أن تُبقي عجلة الإنتاج في دورانها كي لا ترتدّ اقتصاداتها بخطورة إلى الوراء.

المجموعة الثانية من هذه الدول هي ملكية دستورية رهن التطور، يتم توجيهها من الأعلى، حيث يأتي المغرب في الصدارة. التحدي الماثل أمام ملوك المغرب والأردن والبحرين يكمن في قدراتهم على تحفيز السوانح لتحقيق المشاركة في الحكم، بالإضافة لتعزيز المساءلة في القطاعين الخاص والعام على حد سواء.

كما أن هناك مجموعة ثالثة من البلدان، تلك التي تسعى للإصلاح بشكل تدريجي حسبما تستدعيه «مسيرة البيت»، وهي المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر وعمان. مصدرو المنتجات الهيدروكربونية هؤلاء، يتوخّون حذرين إعادة توزيع الموارد العامة على مواطنيهم فيما يتطلعون تدريجيا لتحسين استجابية آليات أنظمتهم السياسة والاقتصادية. تراجع عدد السكان لديهم مؤداه تضاؤل التحديات والعكس هو الصحيح. ويترتب على هذه المجموعة من البلدان صياغة عقود اجتماعية جديدة في المقبل من الأيام.

أما المجموعة الرابعة فهي بلدان تؤثّر التطورات المتوسطة الأمد على سيادتها أو على مستوى التحركات الشعبية أو مستويات الفقر التي تعانيها. وهي ليبيا واليمن والسودان بما فيه جنوب السودان وفلسطين. السؤال المطروح حاليا هو كيف تستطيع حكومة ليبيا الوليدة تحويل طاقات مقاتليها إلى قدرات منتجة لدى الأخذ بعين الاعتبار هشاشة البنية التحتية الاقتصادية حتى عشية اندلاع الثورة. التحدي الأكثر جسامة بالنسبة لهذه الدول يتمثل في ترسيخ الاستقرار أولا ومن ثم استخراج صيغ جديدة للتواصل الاجتماعي من شأنها خلق ترابط اجتماعي - سياسي للحد من اندلاع المماحكات المستقبلية.

وأخيرا، تبرز في العالم العربي ثلاث ديمقراطيات «ورقية» هي لبنان والكويت والعراق، حيث تبدو منجزاتها دون قدراتها الحقيقية على المستويات الاقتصادية والاجتماعية. وحظيت هذه الدول السنة الماضية بنصيبها من التململ الاجتماعي.

وفي الوقت الذي يفقد فيه غليان الشارع سحره وبريقه، تتمحور ثلة من التحديات القادمة حول استحداث تخطيطات جديدة لتلبية التوقعات السياسية. وستنطوي هذه على آليات جديدة من التنسيق المناطقي من شأنها تقليص اختلاف النمو والفرص المتاحة بين شعوب عربية أكثر اطلاعا على أحوال العالم. لقد ارتفع معدل الناتج المحلي الإجمالي منذ الثمانينات في دول مجلس التعاون الخليجي بتسارع أكثر من باقي الدول العربية. فبين عامي 2010 - 2011 قد يحقق العالم العربي باستثناء مجلس التعاون مستويات نمو حقيقية بنسبة نصف ما سُجل في الخليج، يرافقها ارتفاع في البطالة. وبالمقارنة بين مستوردي النفط ومصدريه، نجد التباعدات المتزايدة ماثلة أيضا.

والجدير بالذكر أن هناك أدلة متعددة على تكثيف الجهود التي يمكن أن تساعد استباق المزيد من تباينات النمو، عن طريق استحداث «الصناديق» الإقليمية الجديدة، وهي لسلطنة عمان والبحرين حتى الآن، جنبا إلى جنب مع الأردن وربما المغرب بل حتى مصر. لكنه ما زال علينا ترقب السرعة والوجهة والإشراف على مثل هذه المدفوعات - وجميعها مسائل «حوكمة» تفتقر إليها المنطقة. وفيما تشير صورة السيولة الإجمالية إلى أن البلدان العربية قادرة تماما على تمويل نفسها اليوم، نرى أن مصّدري النفط في دول مجلس التعاون الخليجي لديهم مقتضياتهم الخاصة بهم.

سيساعد نظام متماسك للاستثمار الإقليمي وصياغة السياسات الاقتصادية، بما في ذلك بنك جديد للتنمية الإقليمية، على إضفاء الطابع المؤسسي ومواءمة الاختلالات الإقليمية وكذلك على تهدئة الاضطرابات السياسية. المنظمات القائمة حاليا مثل المؤسسة العربية لضمان الاستثمار بحاجة لأن يعاد فيها النظر، إما بإرجاعها إلى سابق عهدها أو التنازل عن الطريق للاعبين أكثر دينامية. وهناك ما لا يقل عن 10 منظمات إقليمية أخرى لا بد أن ينفض عنها الغبار.

والمطلوب حاليا استراتيجيات للتكامل الاقتصادي الإقليمي ليس فقط لقيام السوق الخليجية المشتركة والعملة في نهاية المطاف، ولكن أيضا لإدراج بلدان «محيطة» معها لاحقا بطريقة مدروسة ومخطط لها. وبينما كانت دعوة الأردن والمغرب غير المحضر لها، لها ما يبررها، وهي تتطلب استبيانا واضحا يسبق التنفيذ. كما لا بد من إحياء الاتحاد المغاربي وتأهيله وتثميره وذلك بمساعدة، وجزئيا لمصلحة، أوروبا. هذه التدابير سوف تحد من تكاليف الانتقال، وكذلك النكسات.

ولو نظرنا في المستقبل الآتي بأثر رجعي، فسوف يرجح القول أن بلدان العالم العربي أغفلت خطوات في إصلاحاتها السياسية، بالمقارنة لبعض بلدان أميركا اللاتينية وآسيا على سبيل المثال. مع الدعم الإقليمي المناسب، وعلى خلفية عقد لم يسبق له مثيل من تدفقات الاستثمار الإقليمي والأجنبي المباشر داخل المنطقة، يتوجب على معظم البلدان العربية تفادي سيناريوهات الازدهار والكساد المتعددة، والفرضيات والارتدادات إلى الديكتاتورية التي صاحبت عمليات الانتقال إلى الديمقراطية في أميركا اللاتينية على سبيل المثال. مصدرو النفط يمكن أن يعتمدوا أسعار النفط لوضع أرضية صالحة داخل المنطقة لتدفقات الاستثمار الإقليمي والأجنبي المباشر خاصة أن الفرص في الأسواق الخارجية ستبقى ضعيفة لبضع سنوات قادمة. ومن الممكن أيضا أن يستمر متوسط سعر السوق من النفط أعلى من مستوى التعادل - بين الدخل والخرج

- في الحكومات العربية لما تبقّى من هذا العقد. وحالما يتم استيعاب الصدمات الأولى، يستدعي تدفق الاستثمار الداخلي استئناف تفعيل مزايا القوى العاملة عبر المنطقة نظرا للتحرر الاقتصادي المستدام. ومن خلال الطيف السياسي في العالم العربي اليوم، من الليبراليين إلى المحافظين، يبقى الالتزام بالتجارة، والأسواق المفتوحة، وحقوق الملكية من العناصر القوية التي تحد من احتمال رؤية تجارب السياسات الاقتصادية الرجعية من البروز.

وبينما يتمظهر «النموذج الجديد»، من المحتم أيضا أن تُحتسب من جديد آليات الأمن الإقليمي، كما اتضح هذه السنة من خلال مشاركة دول مجلس التعاون الخليجي في البحرين وليبيا، حيث يصبح رجال الشرطة التقليديون للمنطقة من ذوي الموارد المحدودة. ولعله خبر حسن وسيئ في آن أن تتمكن المنطقة من تمويل نفسها خلال هذه المرحلة الانتقالية، والسيئ هنا أن يُتخذ الأمر ذريعة لإرجاء ترسيخ الحكم الأفضل واتخاذ القرارات الصعبة. وفي حين أنه من المبكر جدا تقصي ذلك بالتفصيل، يبدو أننا نشهد ولادة سوق ناشئة، جديدة ومثيرة وجاهزة للتدفقات الاستثمارية المتزايدة، والتي يُرجّح أن تلعب دورا أكثر بروزا، فيما ينحسر التطرف في مواجهة التنمية الاقتصادية