الإقطاعي والفارس.. من القاهرة إلى تونس

TT

القصة القديمة تقول ما معناه، إن إقطاعيا كان قد قرر، ذات يوم، أن يوزع أرضه مجانا على عدد من الفرسان، وإنه قد جاء بهم جميعا أمامه، ثم صارحهم، بأن كل واحد فيهم سوف يحصل على قطعة أكبر من الأرض، بقدر استطاعته على أن ينطلق فيها بحصانه، ثم يعود قبل الغروب، فإذا عاد بعد غروب الشمس، ولو بدقيقة واحدة، فإنه ساعتها لا يحصل على بوصة واحدة من الأرض.. والمعنى، مرة أخرى، أن كل فارس منهم، كان عليه أن يأتي بالحصان، عند نقطة البدء، وكان عليه أن ينطلق بأقصى سرعة، في اتجاه انحدار قرص الشمس نحو غروبه، ولم يكن المطلوب من أي فارس قرر دخول الرهان، إلا شيئا واحدا، هو أن يعود إلى نقطة البدء، قبل الغروب، وعندئذ، سوف تكون المساحة التي قطعها، ذهابا وإيابا، ملكا خالصا له، وحلالا عليه!

تقول القصة، في خلاصتها، إن الجميع قد خسر، ولم يكسب أحد، لأن كل فارس بينهم، كان يلهب ظهر حصانه ويظل يسابق الريح، أملا في أن يحوز أكبر مساحة ممكنة من الأرض، وكان في غمرة الطموح، والطمع، ينسى تماما أن هناك شرطا واحدا، ووحيدا، لاستحواذه على الأرض، هو أن يعود ثم يستقر تماما عند نقطة الانطلاق، قبل الغروب ولو بلحظة.. فالمهم ألا تختفي الشمس، قبل عودته، إلى تلك النقطة.. الجميع خسروا، والجميع تساقطوا في طريق العودة، واحدا وراء الآخر، والجميع أنهكوا أحصنتهم، فخارت قواها، ولم تتمكن من العودة، بالقوة التي كانت قد بدأت بها، ووقف الإقطاعي صاحب الرهان، أمام مشهد النهاية، يتطلع إليه في هدوء وإشفاق، لعلنا نحن نستوعب معناه!

ولا بد أن كل متابع للمشهد في تونس، بعد الانتخابات الأخيرة، سوف يستدعي معنى هذه القصة، حتى ولو لم يكن قد قرأها، إلى ذهنه، تلقائيا، وهو يراقب ما يجري هناك، خصوصا بعد إعلان النتيجة، وحصول حركة «النهضة» الإسلامية، على أغلبية نسبية في مقاعد البرلمان، تتيح لها أن تشكل الحكومة المقبلة، ائتلافا، مع عدد من الأحزاب التي حصلت على نسب صغيرة متفاوتة، من المقاعد.

التصريحات الصادرة عن راشد الغنوشي، زعيم الحركة، بعد الفوز، تذكرنا على الفور بما قد جرى في القصة، بين الإقطاعي والفرسان!

فالغنوشي لا يكاد يجعل فرصة متاحة تمر، منذ إعلان النتيجة، إلا ويؤكد فيها من جديد، انفتاحه على الغرب وأوروبا، بأقصى قدر مستطاع، وهو لا يفعل ذلك فقط، وإنما يذهب في تصريحاته، أو بالأدق وعوده، إلى مدى يكاد يماثل المدى الذي كان قد ذهب إليه فرسان القصة، فلم يستطيعوا العودة، لأنهم أرهقوا أنفسهم، وراحوا يحاولون القيام بأشياء، لا يطيقونها، فكانت الحصيلة التي عرفناها من ختام الحكاية ونهايتها.

راشد الغنوشي أكد، مرارا، أنه لا مجال، ولا مبرر، لأن يتخوف العالم من فوز «النهضة» بهذه النسبة من المقاعد في بلده، لأن مجيء الحركة إلى الحكم، ليس معناه أن يحل الظلام في البلد، كما قد يتصور البعض، والدليل على ذلك، أنه، أي الغنوشي شخصيا، مؤمن بحقوق المرأة، ويقف إلى جوارها، ومؤمن كذلك بحقوق الإنسان، وداعم لها، وعازم على احترام المواثيق الدولية التي تمثل تونس أحد طرفيها، وحريص على طمأنة أي مستثمر يفكر في المجيء والعمل في تونس، و.. و.. إلى آخر مثل هذه الدعوة التي صدرت عن الرجل، في أعقاب إعلان فوز حركة «النهضة».. ليس هذا فقط أيضا، وإنما ذهب الغنوشي إلى مدى أبعد، حين قال إن الحركة التي يتزعمها، لن تفرض الحجاب على المرأة، لأن حكومات أخرى خارج بلاده، حاولت ذلك، وفشلت فيه!

والسؤال - الآن - هو: هل يمكن أن يكون فكر الغنوشي، كقائد للحركة الإسلامية الأبرز، في تونس، قد تطور، إلى هذا الحد؟!.. وهل يمكن أن يكون قد آمن فعلا، بتأثير من ضخامة التجربة التي خاضها، على مدى عشرين عاما مضت، كان منفيا خلالها في لندن، بأن هذا هو وضع المرأة الطبيعي، في بلده، وهذه هي حقوقها العادية التي يتعين احترامها، وهذه هي حقوق الإنسان، إجمالا، التي لا مجال للتنصل منها، وهذه هي الالتزامات الدولية، التي عليه أن يتقيد بها، ولا يحيد عنها، لأن ثمن عدم الالتزام بذلك كله، إنما هو وجود تونس كلها، خارج المجتمع الدولي؟!

الغريب، أن جماعة «الإخوان» في مصر، لم تعلق على ما صدر عن الغنوشي، في هذا الاتجاه، خصوصا أنها هي الأخرى مقبلة، من خلال حزب «الحرية والعدالة» على خوض تجربة انتخابية مماثلة لما خاضتها حركة «النهضة» في تونس، وسوف يكون على «الحرية والعدالة» لو حقق فوزا نسبيا فيها، أن يطمئن العالم، على أفكاره هو الآخر كحزب، سوف يكون شريكا أساسيا في الحكم.. فهل سوف يتحدث «الحرية والعدالة» هذه اللغة ذاتها، التي تكلم بها الغنوشي ممثلا لحركة «النهضة»، أم أن اللغة سوف تختلف، وإذا اختلفت، ففي أي اتجاه؟! أم أن اللغة التي راجت على لسان الغنوشي، بعد فوزه، قد فاجأت الجماعة في القاهرة، إلى حد أنها أربكتها، وجعلتها لا تستطيع أن تقرر، بماذا عليها أن تصرح، ولا ماذا عليها أن تفعل؟!

طبعا، وارد جدا، أن يكون كل ما صدر، حتى الآن، عن الغنوشي وجماعته، نوعا من «التكتيك» الذي يتعامل به مع كل مرحلة، بما يناسبها من خطاب، وصولا إلى مرحلة «التمكين» التي يؤمن بها الإسلاميون عموما، وهي المرحلة التي يهيمنون فيها على المجتمع كله، فلا يعودون وقتها في حاجة إلى «تكتيك» من أي نوع، لأن الأمور، عندها، تكون قد دانت لهم بكاملها!.. وإذا حدث ذلك، أي إذا وصلنا معهم، إلى هذه الدرجة، فسوف لا يكون هناك مفر، من الصدام مع المجتمع الدولي الذي يترقب، إذا تبين أن لغة الاعتدال هذه، لم تكن إلا غطاء، يخفي ما تحته من تشدد وتزمت، وسوف لا يكون هناك مفر أيضا، من الصدام مع المجتمع الوطني ذاته، في داخل كل بلد، سواء في تونس، أو القاهرة، أو غيرهما، وتكون النتيجة أن تخرج «النهضة» من البرلمان، وأن يخرج معها «الحرية والعدالة» من البرلمان أيضا، بإرادة الناخب، عند أول انتخابات لاحقة!

على كل حال، لخصت فيكتوريا نولاند المتحدثة باسم الخارجية الأميركية، الموقف كله، في عبارة موجزة، حين قالت إن بلادها سوف تتعامل مع «نهضة» تونس، حسب أفعالها، لا أقوالها، وهو ما يعيدنا إلى معنى القصة التي بدأنا بها هذه السطور!