طمأنة الأقليات في العالم العربي.. مسؤولية الإسلاميين الكبرى

TT

* لا يُدرِكُ المَجدَ إلاّ سَيّدٌ فَطِنٌ.. لِمَا يَشُقُّ عَلى السّاداتِ فَعّالُ

* لا وَارِثٌ جَهِلَتْ يُمْنَاهُ ما وَهَبَتْ.. وَلا كَسُوبٌ بغَيرِ السّيفِ سَأآلُ

* (المتنبي)

* الكرة في ملعب الإسلاميين، حيث تهب نسائم «الربيع العربي»، سواء اختارت القوى الإسلامية الاعتراف بهذه الحقيقة أم فضلت تجاهلها.

أمام القوى الإسلامية لأول مرة منذ أكثر من نصف قرن فرصة ذهبية لفهم تعقيدات التعايش في بيئات العالم العربي المختلفة. ومنها أنه من المتعذر وجود مشروع إسلامي واحد أحادي اللون، أحادي الخطاب، يصلح هنا وهناك وفي كل مكان مهما كانت الظروف.

وإذا كان من البديهي أن تحديات العمل السياسي في الغرب غير المسلم، وأيضا الشرق غير المسلم - كحال الهند والصين.. وكذلك الفلبين وتايلاند - تختلف اختلافا جوهريا عن تحدياته في كيانات العالم الإسلامي، فهي أيضا داخل العالم الإسلامي، وبالأخص في العالم العربي، تختزن نسبة عالية من الاختلاف.

في بعض الكيانات الإسلامية والعربية يشكل الطرح الديني «عامل جمع» لا «فرقة» عندما توجد في هذا الكيان أو ذاك أقليات عرقية مسلمة. لكن العكس صحيح عندما تضم مكوناتها السكانية فئات غير مسلمة أصلا.. لكنها عريقة في تجذرها وولائها في أرض الكيان المعني.

من هذا المنطلق الواقعي، يستحيل أن تكون هناك حصيلة سياسية واحدة لنجاح القوى الإسلامية - بصرف النظر عن مستوى تشددها - في كسب الانتخابات العامة.. في كيانات كليبيا وتونس ومصر.

في ليبيا، باستثناء الأقلية الإباضية في الجبل الغربي (جبل نفوسة)، يشكل الإسلام السني الهوية المذهبية والدينية الغالبة بنسبة تصل إلى 95 في المائة على الأقل، تقابل ذلك تعددية قبلية، وأقليات إثنية (الأمازيغ - أكثر من 5 في المائة - والطوارق والتبو وغيرهم). والتحدي الكبير أمام القيادة الليبية الجديدة هو إيجاد «هوية سياسية» جديدة قديمة قابلة للحياة، ومماشية لمستقبل البلاد السياسي والاقتصادي، على أنقاض الهويات الممزقة المتراكمة التي استهلكها وأفلسها حكم معمر القذافي.. الواحدة تلو الأخرى.. على امتداد أكثر من أربعة عقود.

ويشكل الإسلام السني الغالبية الساحقة في تونس (98 في المائة)، غير أنه موجود في بيئة حية لها تقاليد مدنية منفتحة وعلمانية نشطة، تعود إلى عقود عديدة خلت، وغدت جزءا لا يتجزأ من نسيج الثقافة السياسية والمؤسساتية في البلاد. ولهذا السبب كانت «حركة النهضة» الإسلامية متعقلة ومعتدلة في طروحاتها الانتخابية إبان حملة انتخابات المجلس التأسيسي، ومع هذا عجزت عن كسب أكثر من 40 في المائة من مجموع الأصوات.

أما في مصر، وبالرغم أيضا من وجود غالبية إسلامية سنية كبيرة جدا، ففي لب هوية البلاد الحضور القبطي السابق للفتح الإسلامي. وهذا الحضور الراسخ في قلب المواسم الفلاحية والعادات والتقاليد المصرية ما كان في يوم من الأيام هامشيا، ولا يجوز أن ينظر إليه من هذا المنطلق. بل إن معركة استقلال مصر المتطاولة ما كان لها أن تُنجز من دون الإسهام القبطي المباشر في العمل السياسي الوطني، بدليل الثقل القبطي المشهود في النضال الاستقلالي، لا سيما داخل حزب «الوفد» ومتفرعاته اللاحقة.

اليوم، وإن كان كثير من المتابعين يرصدون إيقاع الانتخابات المصرية المرتقبة وسط قلق من الأقلية القبطية (نسبتها بين 10 و15 في المائة من السكان)، وتنافس بين «الإخوان المسلمين» و«السلفيين» على الصوت الإسلامي، فإن التحدي السوري ليس أقل خطرا. وهذا التحدي هو ما يقنع نظام بشار الأسد في سوريا - منذ تفجر الثورة الشعبية السورية - بفوائد السير حتى النهاية في رهان الابتزاز بـ«الفتنة الطائفية».

كلام الأسد عن «الصفائح الزلزالية» لم يأت طبعا من فراغ.. فقبله صَدَم البطريرك الماروني بشارة الراعي اللبنانيين والعرب والمجتمع الدولي بمواقفه المؤيدة، عمليا، لاستمرار أنظمة تسلطية فاسدة إذا كان بديلها أنظمة أصولية إسلامية.

والأسد، الذي تكذب ممارساته في كل من لبنان والعراق كل شعاراته «العلمانية» والتقدمية المسوقة لسوريا وداخل سوريا، يدرك جيدا أن «تسويقه» خوف الأقليات من «بعبع» الأصولية الإسلامية السنية في عواصم القرار الغربي، بات خشبة الخلاص الأخيرة المتيسر ترويجها، بدعم ضمني من إسرائيل و«اللوبيات» المرتبطة بها في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية.

وهنا، إزاء هذا الواقع الخطير، وسط استمرار القمع الدموي الذي لم يتوقف منذ منتصف مارس (آذار) الماضي، لا بد من المصارحة.

فالنظام ما عاد أمامه شيء يخسره بعدما فقد صدقيته دوليا وعربيا، وطبعا داخليا. وبالتالي، اختار مستقويا بقوته العسكرية البحتة مواصلة القمع إلى ما لا نهاية.

ثم إنه عاجز «بنيويا» - أي بحكم تكوينه وتركيبته ومفاهيمه - عن إجراء أي تغيير أو تعديل ذاتي، وأي كلام في هذا الاتجاه يتجاهل الأسس التي يقوم عليها النظام، بعدما «استهلك» - تقريبا على «الطريقة القذافية» - كل شعارات الوحدة والحرية والاشتراكية .. وطبعا «الممانعة» (؟).. وتحرير الجولان.. الصابر طويلا.

غير أن شعار «حماية الأقليات»، الذي يستغله النظام للمحافظة على «عصب» آلته القمعية، وتأمين التغطية الشعبية لها، سيظل قابلا للصرف في السوق السياسية.. في حال عجز الأغلبية الشعبية الحقيقية عن تأكيد ثوابت التعايش وطمأنة الأقليات.

فقط عبر تأكيد الالتزام بالدولة المدنية القائمة على المؤسسات والتعايش واحترام الحريات (الفردية والجماعية) والفصل بين السلطات - كما أعلن الدكتور برهان غليون، بالأمس، في طرحه البديل لمستقبل سوريا عبر تهنئة العيد - سيتاح لجم النظام، ومن ثم تجريده من «ورقة» توريط الأقليات.. وزجها في معركة يستحيل عليها أن تربحها على المدى البعيد.

إن إدراك هذه الحقيقة، وتقبلها، يجب أن يكونا في صميم ذهن المجلس الوطني السوري، لا سيما القوى الإسلامية بداخله.

ثم لا بد من القول، وإن كان البعض قد يجد فيه إجحافا بحق الإسلاميين، وربما انتقاصا من حجمهم التمثيلي كائنا ما كان، إن سوريا الغنية بتكوينها التعددي والثقافي، الديني والمذهبي والعرقي، تحتاج إلى آلية تقوم على «عوامل الجمع» لا «الفرقة و«التفرقة».. وهو ما يعني ضرورة اقتناع القوى الإسلامية في سوريا، بأن نجاح ثورتها يستحق تقديم تضحيات لا بد منها في إطار ديمقراطية عاقلة ومنفتحة لطمأنة الأقليات التي تاجر النظام بخوفها طويلا.. ذلك أن البديل سيكون كارثيا في كيان تعددي حقا.. كالكيان السوري.

الخيارات في سوريا واضحة وضوح الشمس: فإما التواطؤ غير المباشر - وربما غير المقصود - مع النظام عبر تزكية طروحاته «التخويفية» الابتزازية، أو فضحه والسير قدما نحو مستقبل مؤسساتي جامع ومنفتح يتسع لطموحات الجميع.. كما أعلن المجلس الوطني السوري.