الجلبة ضرر

TT

أصغيت قبل أيام إلى سيدة تدعى لميس جابر في مقابلة مع الزميل الفائق اللياقة والكثير الهدوء، جمال عنايت. أقول: «سيدة تدعى» لأنه لتقصير شديد مني، كانت هذه أول مرة أتعرف إلى الدكتورة جابر، التي فاقت مضيفها لياقة وهدوءا. ولعل صراحتها وصدقها تجاوزا الكثيرين ممن يتحدثون في الشؤون المصرية هذه الأيام. فمنذ نجاح الإطاحة بالرئيس مبارك ورجاله، تحولت الشاشات المصرية إلى أسواق جمعة تلقى فيها الخطب عن دور المتحدثين في توقع الثورة وفي إنجاحها وكم هم حريصون على سلامتها. لا. لميس جابر تحدثت عن مصر، وعن وقائع مصر. وأهم ما قالت إن ثمة عادة في مصر هي إلغاء ما سبق. عبد الناصر ألغى فاروق والسادات ألغى عبد الناصر ومبارك ألغى السادات والآن يريدون إلغاء الجميع. يعني إلغاء 60 عاما من تاريخ مصر، كأن لا حسنات ولا رجال ولا إنجازات ولا شيء فيها.

في اليوم التالي لتنحي مبارك انقلبت الدنيا عليه ومع الثورة. في اليوم التالي لاغتيال السادات بدأت المسلسلات بأقلام الذين كانوا دائما معارضين، كما يقولون دائما، لكن الفرصة لم تسنح. وبعد وفاة عبد الناصر بدأ السادات بتفكيك جمهوريته يرمي كبار رجاله في السجون كما يرمى الآن رجال مبارك.

عندما ظهر «التليفون» رفض الألمان استخدام الاسم الفرنسي أو الإنجليزي للهاتف وبحثوا عن مصطلح ألماني يتناسب مع اعتزاز العرق الجرماني الصافي. وبعد حين طلعوا بـ«المتكلم عن بعد». ونحن إذ نتكلم عن بعد لا يحق لنا أن نقضي في شؤون المصريين وأن نقرر من هو البريء ومن هو المرتكب. لكن يحق لنا التساؤل عن جدوى المبالغة في الشتم والسخرية والروح الكاريكاتيرية التي لا تتوقف عند مستوى.

فإن في ذلك ليس إساءة إلى عهد مبارك، لأن عهد مبارك قد انتهى. ومن سوء حظه وحظ مصر أنه لم ينته قبل ذلك بخمس سنوات على الأقل. أما الذي لم ينته ولم يبدأ بعد، فهو انتقال مصر إلى استقرار ما بعد مبارك. ولذلك تقول الدكتورة جابر إن الذي جرى هو إطاحة بدولة 23 يوليو (تموز) وليس بعهد مبارك.

إذا لم تضحك مصر، لا تستطيع أن تحيا. ولما جاء أليكسي كوسيغين يزور القاهرة سبقته النكتة التي تقول: «عاوزين أكسجين مش كوسيغين». ومصر ليست عايزة قصائد «كوبيا»، على رأي سمير غانم، ولا كاريكاتيريات غنائية، بعضها أقرب إلى الدلع والهلفتة منه إلى النقد والسخرية. أهو النظام وأطحناه. والشعب يريد أن يجلس ويسأل - شرط أن يسمع أيضا – على طريقة جمال عنايت. الجلبة مؤذية.