الثورة والجلوس على الربوة

TT

ما من شك في أن نسبة إقبال التونسيين على انتخابات المجلس الوطني التأسيسي كانت لافتة للانتباه وحازت الكثير من الارتياح لها، باعتبار أن قرابة نصف الذين تتوافر فيهم شروط ممارسة الحق الانتخابي لبوا النداء يوم 23 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. ولكن من المهم جدا ألا نصوب العيون فقط نحو نصف الكأس المليء بالماء وتجاهل نصف الكأس الفارغ. بل إنه من الضروري أن نضع قيام 50 في المائة من مجموع الناخبين التونسيين بالتصويت في إطاره، حيث إن ما أظهره التونسيون من عزوف في مرحلة التسجيل في المكاتب الانتخابية هو ما جعل التقييم يأخذ حجما أكبر من الحجم الموضوعي والدقيق.

فليس من المعالجة الشاملة في شيء، أن نغفل عن حقيقة مقلقة تقول إن أكثر من نصف الناخبين التونسيين، أي أربعة ملايين، لم يمارسوا حقهم الانتخابي واكتفوا بالجلوس على الربوة في موقف منهم يلوح بالسلبية واختيار دور المتفرج.

إننا أمام نوع من الاستقالة من الصعب استيعابه في المثال التونسي تحديدا. فصحيح أن ظاهرة العزوف عن المشاركة السياسية ظاهرة دولية، إلا أنه بالنسبة إلى الأنموذج التونسي، فإن المعايير تختلف من منطلق أن الشعب قام بثورة وواصل ثورته من خلال الاعتصامات والاحتجاجات ولم تبدأ الأوضاع تهدأ نسبيا إلا عندما تم القبول بمطلب إجراء انتخابات المجلس الوطني التأسيسي في أقرب وقت ممكن. إضافة إلى أن الشعب التونسي الذي لم يعرف انتخابات حرة وديمقراطية منذ تاريخ بناء الدولة الوطنية عام 1956 لم يبرهن أكثر من نصف مجموع ناخبيه عن تعطشهم لممارسة الحق الانتخابي وواصلوا سلوك العزوف واختيار الجلوس على الربوة وكأنهم لم ينجزوا ثورة قبل تسعة أشهر.

وإذ نركز على الناخبين التونسيين الذين امتنعوا عن التصويت أكثر من المشاركين أنفسهم، فلأن المشاركة مفهومة ومطلوبة وسهلة التفسير، في حين أن العزوف في ظل ظروف جديدة استثنائية، سلوك يبعث على الحيرة ويسلب الجزء الأكبر من عملية التفكير.

طبعا الاصطفاف بالملايين ضمن فريق الجلوس على الربوة سلوك مركب من الصعب تفكيكه وادعاء القبض على محدداته وأسبابه. ولكن في الوقت نفسه قد نجد ما يساعد على الانطلاق في الفهم الجزئي والأولي.. ذلك أنه للديمقراطية في طورها الجنيني حدود من الصعب كسرها جميعا.

كما أن ما عرفناه عن الديمقراطيات العريقة أن اللعبة الانتخابية كثيرا ما تنحصر عمليا بين حزبين كبيرين واضحين من حيث المرجعيات والقدرة ومدى إمكانية الوثوق بجدارتهما السياسية، وهو عامل مهم جعل الديمقراطيات العريقة في العالم تحتفظ بالقدر المطلوب من المشاركة الانتخابية. في حين أن الديمقراطية التونسية الجنينية وفي غضون أشهر قليلة عرفت انفجارا من الأحزاب ربما ساهم في تشتيت الرؤية السياسية للناخب التونسي، الشيء الذي أدى بدوره إلى تفضيل الجلوس على الربوة والتفرج على أولى جولات اللعبة الديمقراطية.

وأيضا لا نستطيع أن نهمل معطى آخر، وهو أن الكثير امتنع عن إعطاء صوته ربما لأنه لم يشعر بأنه معني بالواقع التونسي الجديد أو أن صوته لن يكون مؤثرا، تماما كما لم يكن قبل حدوث الثورة. وهي حالة تنبئ بأن التغيير في تونس لم يؤت ثماره، ولو كانت الأولى، كما يجب.

إن السياسي الجاد والذكي واليقظ من المؤكد أنه لا يمل من إيجاد الحلول لأكثر من أربعة ملايين اختاروا الجلوس على الربوة وكأن لا شيء يحدث وكأن لا ثورة قامت. على الأقل بالنسبة إلى قرابة أربعة ملايين تونسي.

وأغلب الظن أن العدد غير هين بالمرة. فلا مجال للادعاء بالنظر إلى الكأس إلا إذا انتبهنا إلى نصفيها.