الجميع أفضل إلا..

TT

إذا عدت إلى الصحف قبل مائة أو مائتي عام، سوف تجد أن القضايا تتكرر: هل التطور أفضل أم العودة إلى الطبيعة؟ الحضر أم القرى؟ الطب الحديث أم دواء الهدوء وانعدام التلوث؟ وليس من جواب طبعا، وإنما المزيد من الشكاوى، والمزيد من الحنين إلى أشياء لم تعد موجودة أو ممكنة. فمن وأين هي العائلة التي تستطيع اليوم العيش من دون هواتف جوالة، مثلا؟

يحمل القلق السائد حاليا الناس على التساؤل؛ ألم نكن أفضل قبل 50 عاما؟ عندما يطرح السؤال عليّ، أقول إننا قبل 50 عاما كنا ندخل إلى غرفة الأخبار الخارجية كل يوم، ونحن نتوقع أن تحمل آلة «التيكر» خبر اندلاع الحرب العالمية الثالثة - إذا بقي من يذيعه - إما من كوبا أو من برلين الغربية. وكانت الحروب القاسية تملأ أفريقيا، وكانت الهند جائعة، وكانت الصين تأكل الأرز وتتنقل بالدراجات، وكانت أوروبا قارة مقسمة ودولا متفرقة، وكانت الجزم العسكرية تملأ أميركا اللاتينية بديكتاتوريات مثل جلود - وأنياب - التماسيح وتخلف المستنقعات، وكانت الحرب الباردة تشل العالم، وكانت سنغافورة وماليزيا وإندونيسيا في الفقر والأوبئة.

ليست هناك اليوم نقطة تهدد بحرب عالمية نووية، وأميركا اللاتينية بلاد حرة إلى حد بعيد، ترأس أهم جمهوريتين فيها امرأتان: البرازيل والأرجنتين، والصين تسرع لأن تكون الاقتصاد الأول في العالم، وتساهم في إنقاذ الاقتصاد الأوروبي، وروسيا تعلمت الاقتراع لكنها تقترع لديكتاتور «لايت» وليس لبريجينيف أو بودغورني، وبرلين عاصمة هادئة مثل أستوكهولم، لا تهدد أحدا ولا يهددها أحد، وهافانا اكتشفت بعد نصف قرن أن من الأفضل إعطاء الحرية للناس، وإندونيسيا وماليزيا وسنغافورة في فئة النمور الاقتصادية، وكوريا الجنوبية وتايوان فوق طبقة النمور، بعد عقود الفقر، وأوروبا الشرقية تسابق أوروبا الغربية.. حتى أفريقيا دخلت مرحلة النمو، على الرغم من علامات البؤس والتفكك في السودان والصومال والكونغو.

وفي فيتنام ولاوس وكمبوديا قامت دول موحدة على الرغم مما تعانيه من آثار الحروب وزمن بول بوت. لقد كنا، كمحررين للأخبار الخارجية، نكرر صفحات وعناوين متشابهة كل يوم، وكانت وكالات الأنباء تورد بانتظام عدد الضحايا؛ طبعا العسكريين منهم، لأنه بعد الحرب العالمية الثانية، صار قتل المدنيين بلا أهمية، ففي تلك الحرب كان 90% من الضحايا عسكريين و10% مدنيين.

وماذا عنا هنا، في هذه البقعة من ديار الله؟ هل نحن أفضل حالا أيضا؟ اسألوا آباءكم، ولاحقوا نشرات الأخبار.. وإذا كان لا بد من جواب مقتضب، فإننا نسير في عكس وجهة التطور.