الانتخابات المصرية

TT

ربما كان أهم موضوعين على الساحة العربية الآن هما: مدى نجاح المبادرة العربية بخصوص «الثورة» السورية، والانتخابات المصرية. الموضوع الأول يقبل التأجيل، ليس لأنه أقل أهمية، وإنما لأنه يحتاج إلى اختبار على أرض الواقع، وحتى وقت كتابة هذه السطور فإن الثورة لا تزال مستمرة، والقمع البعثي لا يزال في مستوياته العالية من القتل والتدمير. الانتخابات المصرية على العكس من ذلك بدأت عجلتها في الدوران حتى ولو بدا أن عملية الكراسي الموسيقية الجارية لترتيب الأوضاع بعد الانتخابات لا تزال جارية كما حدث في ما سمي بوثيقة الدكتور علي السلمي نائب رئيس الوزراء لشؤون التحول الديمقراطي، والتي طرحت أمرين خلافيين بين القوى السياسية: أولهما شكل وتشكيل الجمعية التأسيسية للدستور، وثانيهما موقع القوات المسلحة وقيادتها من النظام السياسي المصري الجديد.

كلا الأمرين يحتاج إلى نقاش آخر مستقل، ولكن ما بدأت عجلته في الدوران بالفعل هو الاستعداد لانتخابات مجلس الشعب في الثامن والعشرين من نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي حينما تجري الجولة الأولى التي سوف تعقبها جولتان تأخذ بنا حتى منتصف شهر يناير (كانون الثاني) القادم.

أول الجديد هذه المرة في الانتخابات المصرية أنها بدأت ومعها سلسلة من استطلاعات الرأي العام التي أجراها مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بصحيفة «الأهرام» خلال شهور أغسطس (آب) وسبتمبر (أيلول) وأكتوبر (تشرين الأول)، وسوف يستمر إجراء هذه الاستطلاعات خلال الفترة المقبلة. هذه الاستطلاعات تعبر من ناحية عن قلق مصري إزاء الحاضر والمستقبل، ورغم عدم الثقة العام في الأحزاب والقوى السياسية فإن الرأي العام المصري لا يرى بديلا للطريق الديمقراطي الذي قد يزيل القلق ويزيد الثقة إذا ما تم بنزاهة، خصوصا وأن هناك قدرا كبيرا من الثقة في المؤسسة العسكرية - يعبر عنها المجلس الأعلى للقوات المسلحة - وفي مؤسسة القضاء التي لا تزال تحظى باحترام كبير.

الأرقام واضحة في هذا الشأن، فالشعب المصري قلق لا شك في ذلك، بل إن أكتوبر شهد أن 51.9% منزعجون بينما القلقون 17.9%، أما من لديهم أمل في المستقبل فهم 17%، وأما المطمئنون فلا يزيدون على 13%. القلق والانزعاج الواضح يأتي مما يعتبر أسوأ سيناريو، وهو الفوضى وعدم الاستقرار، وهو سيناريو يخاف منه 60.5%، أما سيطرة الإسلاميين فالقلق منهم 22.6%، وأما الخوف من الحكم العسكري الشائع في الصحافة الغربية فلا يزيد عن 13.8%، ولكن لا توجد كثرة من المصريين يخافون من حكم علماني، فهم 3.1%. ولكن أولويات المصريين في الانزعاج والقلق تغيرت خلال الشهور الثلاث الماضية، فقد جرى انخفاض واضح في الأولوية التي يلونها للأمن - ربما لأنه آخذ في التحسن - من 28.4% في شهر أغسطس إلى 18.3% في شهر أكتوبر، أما الخوف الكبير فهو يأتي من الحالة الاقتصادية التي ارتفعت نسبة المهتمين بها من 57.4% في شهر أغسطس إلى 65.2% في شهر أكتوبر. ولا يملك المحلل إلا ملاحظة أنه رغم استمرار التوجهات العامة فإن هناك اتجاها تشاؤميا آخذا في الزحف على التوجهات الأخرى في من يعتقدون أن الأحوال سيئة جدا زادت نسبتهم من 27.1% إلى 30.7%، أما من يظنونها سيئة فقد زادوا أيضا من 46.5 إلى 47.5%، أي أننا في النهاية لدينا في شهر أكتوبر نحو 78% من المصريين يعتقدون أن أحوالهم تدور ما بين السيئ والسيئ جدا. وربما كان الأخطر من ذلك هو تراجع الثقة في المستقبل الديمقراطي للبلاد، فرغم أن 59% من المصريين لا يزالون يعتقدون أن البلاد جاهزة للديمقراطية في شهر أكتوبر فإن ذلك كان تراجعا عن 65.7% في شهر سبتمبر، بينما ارتفع في نفس الوقت نسبة من يرون الشعب غير جاهز للديمقراطية من 34.3% إلى 41% بين الشهرين. ولذلك فإن الشعب المصري يرى أن الأرجح في شهر أكتوبر هو أن النظام السياسي المصري سوف يكون شبه ديمقراطي بنسبة 45.1% مقارنة بنسبة 36.7% يرونه سوف يكون ديمقراطيا. الأمر المبشر هو أن نسبة صغيرة (13.9%) تراه سوف يكون مثل النظام السابق، بينما 4.2% فقط يرونه سوف يكون أكثر ديكتاتورية.

إذا كان ذلك يؤشر إلى المزاج العام للمصريين فإن جزءا منه هو الشعور بالاطمئنان تجاه القوات المسلحة والارتكان إليها رغم الحملة الكبيرة المضادة لها من تيارات شتى خلال الفترة الأخيرة. فالأغلبية الساحقة من المصريين يرون في شهر أكتوبر أن أداء القوات المسلحة يدور ما بين الجيد (38.5%) والجيد جدا (40.6%)، أي ما يصل إلى 79% مقابل 12.6% يرون هذا الأداء ما بين سيئ وسيئ جدا. ورغم أن الميزان مقارنة بشهر أغسطس يعكس تراجعا في غير صالح القوات المسلحة فإن النسبة الكبيرة في شهر أكتوبر لا تزال في صالحه. وقد يعطينا رؤية للموقف المعقد من المصريين للخروج من حالة القلق والانزعاج التي يعيشون فيها هي أنهم يريدون رئيسا للجمهورية يتسم بالشخصية الحازمة والصلابة بينما يريدون دورا أكبر للتيار السياسي الإسلامي في نفس الوقت. فالاستطلاعات الثلاثة لشهور أغسطس وسبتمبر وأكتوبر أعطت أصواتها إلى عمرو موسى والفريق أحمد شفيق وعمر سليمان، والثالث غير مرشح على الإطلاق، بينما يتناوب المركز الرابع كل من أيمن نور، وهو لم يعد مرشحا، وحمدين صباحي، وسليم العوا. الأول نسبته تزيد على 60%، والثاني 40%، والثالث 20%، والباقون أقل من ذلك بنسب متفاوتة. الثلاثة الأول كانوا جزءا من السلطة السياسية السابقة في أدوار مختلفة، واثنان منهما من العسكريين، أما بالنسبة لانتخابات مجلس الشعب والشورى فإن الكفة تميل نحو الإخوان المسلمين وبشكل مستمر يتراوح حول 35.7%، يليه حزب الوفد بنسبة 26.2% في شهر أكتوبر. وبعد ذلك تأتي أحزاب النور والعدل والاتحاد بنسب أقل من 10%، ومن تبقى فنسبتها أقل من 3%.

الصورة كما تبدو في النهاية هي أن الشعب المصري يريد دورا فاعلا للقوات المسلحة، مع رئيس قوي للجمهورية، في الوقت الذي يمنح فيه التيار الإسلامي هامشا من التفوق يسمح بتجربته في الحكم بينما يتجاور معه تيار ليبرالي قوي يمثل الوطنية المصرية ممثلا في حزب الوفد يستطيع أن يساهم في تحقيق انضباط برلماني يمنع الشطط والتطرف. وعلى عكس ما يبدو من الخارج بأن الساحة السياسية المصرية مفتتة، فإن الحقيقة أنها الآن تضع أولى لبنات نظام الحزبين ما بين الإخوان الذين يقودون كتلة إسلامية بفارق كبير عن أعضائها، وحزب الوفد الذي يقود كتلة مدنية وبفارق كبير أيضا عن أعضائها. وكل ذلك في وجود حراسة قوية من القوات المسلحة، ورئيس له من القدرات والنفوذ ما يحافظ على التوازن السياسي، والمصالح العليا لمصر التي وضعها الشعب المصري في هدفين رئيسيين: أولهما استعادة الاستقرار بنسبة 59.1%، وثانيهما تحسين الاقتصاد 32.6%، ولعل الهدفين هما في حقيقتهما هدف واحد، وهو خروج مصر من حالتها الثورية إلى حالتها المعتادة كدولة، ولكن أكثر ديمقراطية هذه المرة.