مصر ولعبة الثلاث ورقات

TT

ليس هناك شيء كبير أو مستغلق على الفهم في مصر، حتى الحيل السياسية المطروحة لا تتعدى عمليات صغار النصابين في مولد الحسين أو السيدة المتمثلة في لعبة «التلات ورقات» المعروفة للجميع والتي «انضحك علينا» بها أيام الصبا، أو أول مرة تطأ فيها أقدامنا أرض المولد. وأقدامنا اليوم تطأ لأول مرة المولد السياسي لستنا المحروسة، ولم نكتشف بعد أن العملية مغشوشة من المنبع. ولكننا جميعا نساق إلى اللعبة المغشوشة وعيوننا شاخصة على صاحبنا وهو ينادي بصوت عال «الصورة فين». والتلات ورقات التي أتحدث عنها هنا ليست ورقات النصاب في مولد السيدة، ولكنها أوراق عمل في مولد ستنا المحروسة. الورقة الأخيرة التي أثارت جدلا وهميا هي ورقة نائب رئيس الوزراء المصري علي السلمي والمسماة «وثيقة المبادئ الحاكمة للدستور»، والتي أثارت حربا وهمية بين الإسلاميين والعلمانيين في مصر، رغم أنها لا تتعدى كونها موضوع إنشاء لو كتبه طالب في الجامعة كخطة عمل للتحول الديمقراطي في مصر لرسب في الامتحان. أما الورقة الثانية من التلات ورقات، فهي ورقة الإعلان الدستوري التي جب بها المجلس العسكري ما قبل ورقته من أوراق، كما التهمت عصا موسى ثعابين السحرة. أما الورقة الثالثة فهي ورقة الفقرات المعدلة والمستفتى عليها من دستور 1971 الميت أو المعطل بحكم الثورة. هذه هي الورقات الثلاث التي قدمت كأوراق عمل رغم أنها لا تتعدى كونها أوراق لعب، ذلك لو كنا بكامل وعينا.

لا يختلف ما هو معروض كثيرا في مصر الآن عن ورقات الحواة في المولد. في المولد يقول لك النصاب «الصورة فين؟» فتدخل معه في اللعبة وتخسر فلوسك، أما في الورقات الثلاث محل النقاش، فإنك لا تخسر فلوسك بل تخسر وطنا بكامله. في المولد غالبا ما يتزاحم الناس على لعبة «التلات ورقات»، وينشلون، ونحن في مصر يسرق الوطن من بين أيدينا وأعيننا شاخصة على ورقات السلمي وإعلان المجلس العسكري، وورقة التعديلات الدستورية.

في عهد مبارك كانت الانتخابات تزور تحت إرهاب الشرطة والبلطجية والدولة البوليسية، وهذه المرة ستزور الانتخابات تحت تأثير جنازير الجماعات الإرهابية، سيساق الناس إلى الانتخابات تحت التهديد، ولكنه تهديد من نوع جديد، فمن يظن أن الانتخابات في مصر ستسير في جو من الحرية واهم أو مخادع لذاته.

على مستوى الشكل تقول ورقة السلمي مثلا في البند الأول: «الشعب المصري جزء من الأمة العربية يعمل على تحقيق وحدتها الشاملة». وتقول في البند الثاني: «الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية». وتقول في البند الثامن «مصر جزء من القارة الأفريقية وتعمل على نهضتها وتحقيق التعاون بين شعوبها.. وهي جزء من العالم الإسلامي تدافع عن قضاياه وتعمل.. إلخ» هذه موضوعات وضعت تحت البند الأول والثاني والثامن، ولو جاءني بها طالب دراسات عليا لقلت له إن هذه البنود الثلاثة مجتمعة تقع تحت مفهوم الهوية الوطنية مثلا، فلماذا تضعها متفرقة هكذا ولا تضعها ضمن بند واحد يخص الهوية؟ مصر دولة أغلبيتها الساحقة من المسلمين وتعاليم الإسلام مرجعية ثقافية أولى فيها وهي دولة عربية تعتبر فيها اللغة العربية هي اللغة الرسمية للبلاد، ومع ذلك فمصر جزء من أفريقيا ومن العالم الإسلامي ودستورها يأخذ هذه الجغرافيا المكانية والفكرية في الاعتبار فيما يخص أولويات التعاون بين الشعوب، هذا إن أصررنا على أن هذا الكلام مهم بالنسبة للمبادئ الحاكمة للدستور.

لماذا أركز على الشكل في هذه الفقرات الثلاث المتناثرة كمثال؟ الفقرات الثلاث هي عرض لمرض، والمرض هو الاستعجال، ونقل الأفكار من الصحف أو من التلفزيونات، مثل موضوع مجلس الأمن القومي الذي طرحه الصحافي المصري محمد حسنين هيكل في واحدة من مقابلاته الصحافية، فأصبح المادة العاشرة من المبادئ الدستورية؛ إذ يقول السلمي: «ينشأ مجلس يسمى مجلس الدفاع الوطني يتولى رئيس الجمهورية رئاسته». تقريبا هذا كلام هيكل نصا. رغم أن هذا الأمر هو أمر تنفيذي وإجرائي لا علاقة له بالمبادئ الحاكمة للدستور.

الهدف من التركيز على الشكل هنا هو كشف حالة الاستعجال التي كانت تسود قاطني الفنادق أيام الثورة ممن كانوا يتصورون أنهم زعماء مصر الجدد، إذ يجلس البعض منهم مع مجموعة من أصدقائه ليكتب خطابا لما بعد تنحي مبارك يمنحه الفرصة لتقدم الصفوف. رأيت هذا بأم عيني وكان الأمر مضحكا لأن الأفكار كانت «نص سوى». وهكذا وثيقة السلمي.

المبادئ الحاكمة للدساتير مثل السيارات لا بد أن تكون مختبرة ومجربة على الطرقات قبل استخدامها، وقبل أن تكون مصر جزءا من أفريقيا أو العالم الإسلامي، فإنها جزء من العالم، وبلدان العالم فيها دساتير مختبرة، ولم تؤد بأهل هذه البلدان إلى التهلكة، فلماذا نجرب في شعوبنا سيارات محلية الصنع بينما الشركات العالمية أنتجت سيارة مرت باختبارات السلامة والأمان. فالمبادئ الحاكمة للدستور الأميركي بجلالة قدره لم تتعد ستة مبادئ آخرها مبدأ يخص النظام الفيدرالي، إذن يمكن أن تكون المبادئ الحاكمة لدستور دولة أصغر كمصر خمسة مبادئ فقط لأننا لسنا دولة فيدرالية. هذه المبادئ هي: الشعب مصدر السلطات، والفصل بين السلطات الثلاث التشريعية والقضائية والتنفيذية، وتوازن القوى (تشكس أند بالنسيس) أي أن لكل سلطة صلاحيات تجعلها قادرة على كبح جماح السلطتين الأخريين، وتقليص الحكومة، ثم المراجعة القضائية للقوانين بحيث لا تتعارض من الدستور. فهل ما جعل أميركا تسير لأكثر من مائتي عام لا يصلح لمصر؟ أم أننا سنعيد اختراع العجلة وندخل في معارك وهمية كلعبة التلات ورقات في مولد ستنا المحروسة؟