الخبز أم الحرية!

TT

يبدو السؤال كلاسيكيا جدا ومنتزعا من حقبة أسئلة النهضة التي تلت فترة الاستعمار، حيث تجدد سؤال ومفهوم الحرية كمفهوم جذري من شأنه تغيير الأوضاع المتردية. اللافت أن سؤال الحرية آنذاك جاء من رحم خطاب النهضة الذي أسسه الأفغاني وعبده، وهما بغض النظر عن النقد الموجه لهما من فئات المتشددين داخل البيت الإسلامي، ينتميان للإسلام كهوية، وينطلقان من مرجعية دينية في نهاية المطاف مهما وصفت بالتجديدية أو المنفتحة.

في مقابل تلك الأصوات التي اعتبرت الحرية مدخلا لتغيير الواقع كانت هناك قراءات أخرى ترى أن «الخبز» طريق للحرية، بمعنى أن الانفتاح الاقتصادي وتحرير الإنسان من ربق الحاجة والفقر خطوة أولى لتحريره من الأوهام والخطابات السائدة التي تجعله مكبلا تحت مفاهيم تتصل بتبرير الأوضاع واعتبارها غير قابلة للتحسين أو التغيير.

المفارقة الآن هو إنه بعد كل هذه العقود، يتجدد السؤال ولكن بأشكال أكثر سطحية، متجاهلة ذلك الجدل الثري حول أسئلة الحرية والنهضة بسبب أن الأسئلة هذه المرة لم تأت من النخب والرموز الفكرية بقدر ما أنها تعبيرات احتجاجية من قبل فئات من الشعب حتى لو تم اختطاف أسئلتها وأحلامها من قبل جماعات آيديولوجية ذات أهداف سياسية بالدرجة الأولى قبل أن تكون تغييرية وإصلاحية.

وإذا كان سؤال الخبز والحرية يبدو ملتبسا الآن بحكم أنه ليس سؤالا افتراضيا في مرحلة ما بعد الثورة، وإنما لأنه يتصل بالواقع الذي تغير بالفعل، فيما يظن أنه انتصار للحرية والتماس لأن يؤدي هذا الانتصار إلى تحقيق العدالة والوصول إلى إجابات شافية ومشبعة لسؤال الخبز، لكن الحقيقة أن سؤال الحرية ذاته محفوف بكثير من المخاطر التي قد تنقله إلى حالة من الفوضى العارمة التي تأكل الأخضر واليابس.

سؤال الحرية اليوم مختلف عن سؤال الحرية الذي طرحه مفكرو النهضة لسبب بسيط أنه محصور في جانب صغير من عموم الحرية السياسية وهو التحرر من ربقة الأنظمة الاستبدادية، بغض النظر عن درجات ذلك الاستبداد وألوانه، بينما كان سؤال الحرية في خطاب النهضة تحريرا للعقل، وتحريرا للثقافة المهيمنة التي شرعنت للاستبداد، وتحريرا للمفاهيم الاجتماعية التي كبلت المجتمع وأعاقت تطوره، وقبل ذلك هو تحرير للإسلام المعتدل العقلاني الذي تم اختطافه تدريجيا لصالح نسخ أخرى معزولة عن الفعل في الواقع.

بالتالي سؤال الخبز اليوم مختلف أيضا شكلا ومضمونا، فبالأمس القريب كان السؤال عن تحديات تحسين الأوضاع الاقتصادية والمنافسة في سوق المال، ومحاولة معالجة الآثار المترتبة على الفقر المدقع وانتشار الأمية والجريمة، بينما اليوم هو سؤال وجودي بالمعنى الحرفي للكلمة في كثير من البلدان التي يتوقع أن تنهار اقتصادياتها بشكل تختلف سرعته بمقدار المعونات التي تصلها بسبب أن الحصة الكبرى من الناتج القومي والمداخيل مرتبطة بقدرة هذه الدول على جذب استثماراتها وسياحها وتصدير الأكفاء من أبنائها ليعودوا بتحويلاتهم المالية التي تنعش الاقتصاد، وكل هذا مرتبط بشكل النظام السياسي وقدرته على تحقيق الاستقرار في أقرب فرصة، ورغم أن كارثة اقتصادية تحدق بأغلب البلدان التي مستها رياح الثورة والتغيير فإن الجميع عالق في سؤال الحرية بشكله الجزئي والمحدود بالسلطة، بينما أن فوز أي طرف بكعكة السلطة قد يكون ورطة أكثر من كونه جائزة في حال وصول الأوضاع الاقتصادية إلى نهاية مسدودة.

خلاصة القول: إن التحرير الاقتصادي يجب أن يسبق الإصلاح السياسي المنشود، يكفي الآن في المرحلة الانتقالية القبول ولو جزئيا بأي سلطة سياسية صاعدة تحظى بثقة الأغلبية بغض النظر عن تاريخها أو إنجازاتها أو الملاحظات النقدية التي تطال خطابها، فالوقت الآن هو وقت الخبز، مما يعني أن تكون الأولوية للخصخصة والإصلاحات الاقتصادية المتوازنة مع ضوابط صارمة لمراقبتها حتى لا تؤول كما في التجارب السابقة إلى نخب مقربة من السلطة مما جعل الكثيرين يرون في الدعوة إلى الإصلاح الاقتصادي قبل أي شيء بعين الريبة في حين أن تطور الاقتصاد في ظل أجواء ما بعد الثورة المتخمة بمفاهيم الحرية سيفضي إلى حذر أي سلطة قادمة من اللعب بالنار، كما أنه سيدفع بقوى المعارضة المؤهلة، التي لا يبدو أنها ستفوز بالسلطة، إلى تطوير آليات المساءلة ورصد التجاوزات.

إن النقطة التي يتم إغفالها دائما في تقييم مرحلة ما قبل الثورة وما بعدها هي أن الخطابات الاحتجاجية التي تطورت لاحقا إلى تمرد الشارع الذي وصف بالثورة هو في الأساس ليس سؤالا عن الخبز، فالجماهير العريضة في مجملها هي من الطبقة الوسطى الصاعدة، بينما كان قلق وخوف الطبقات المهمشة والمسحوقة اقتصاديا أكبر، لأنها تشعر بالذعر من مجرد التغيير، كما أن أداء كثير من الأنظمة السياسية المستبدة اقتصاديا بمعنى تحرير السوق واستقدام الشركات الأجنبية كان أداء جيدا، وإن كانت العوائد لا تجد طريقها إلى الناس، الغضب العربي إذن كان في اعتقاد الشعوب أنها تدار من قبل حكومات غير جيدة أكثر من كونه مرتبطا بالأداء الاقتصادي التفصيلي.

الهلع الآن من شكل السلطة القادمة ينبغي أن لا يطول، فكلما تشكلت السلطات السياسية الآن وما زالت أحداث الثورة عالقة في الأذهان كانت القدرة على البدء بإصلاحات اقتصادية أكثر، فالذاكرة الجمعية لعموم فئات الشعب هي ضد الفساد ومع سيادة القانون، وضد أي تصرفات أو ممارسات تعسفية من قبل السلطة.

وإذا كان تقديم سؤال الخبز على الحرية لضمان الاثنين الآن هو جدل يجب أن يحسم داخليا بين القوى والنخب السياسية المتصارعة فإن دور المجتمع الدولي لا يقل أهمية، فهو مطالب عبر الدول الكبرى والمنظمات الدولية بأن يشجع على دعم كل السياسات التي تؤدي إلى التحول الديمقراطي السريع وصولا إلى القدرة على ممارسة اقتصادية فعالة، وما يحدث الآن من تعالي أصوات المقايضة بدعم السلطات القادمة في مقابل ما يمكن أن تقدمه للمصالح الغربية استراتيجية خاطئة، لأنها تعيد إنتاج شكل العلاقات القديمة من التعامل مع نخب ضيقة سرعان ما سيتم نبذها بعد أن تفشل في تحقيق أي تغييرات إيجابية، وهذا لا يعني أن لا تفكر تلك الدول بمصالحها الاستراتيجية، وإنما يجب أن يتم ذلك عبر الاستثمارات طويلة الأجل وعلاقات تبادل الثقة؛ أو لنقل: بشكل مقلوب لما تفعله الصين في دول الهامش الفقيرة والتي لا يلتفت لها الغرب كثيرا بحكم فقر مواردها حيث لا خبز أو حرية.

[email protected]