رجاء تعلموا من الهنود!

TT

فرنسا، قبلة الرفاهية تخشى الإفلاس وتتخذ إجراءات تقشفية لتقليص الإنفاق بما يقارب 100 مليار دولار. أميركا، أم الليبرالية وأبوها، يتظاهر مواطنوها ضد العولمة، وسكان مدنها يعتصمون في الساحات اعتراضا على توحش بنوكها وشركاتها الكبرى التي أفقرتهم، بعد أن كانت فخر الأمة ومصدر اعتزازها. أما الإعلان عن الانهيار الكبير للاقتصادين الإيطالي واليوناني، فهي مسألة وقت. الأغرب من ذلك كله أن المحللين الاقتصاديين في دول كانت تهز العالم مثل أميركا وألمانيا، على سبيل المثال لا الحصر، باتوا يعتبرون الهنود من كبار المحظوظين، وكذلك الصينيين ويشملون البرازيليين معهم، لأن المستقبل وربما الحاضر أيضا لهؤلاء، وليس أبدا لتلك الدول التي احتلت طويلا صدارة الخارطة.

وإذا كانت هذه الأخبار بحد ذاتها لم تعد مفاجئة، فإن اللافت هو اليأس الكبير من استعادة مكاسبهم، الذي يعبر عنه الأوروبيون والأميركيون، في استطلاعات الرأي، وكذلك نتائج الدراسات المستفيضة، التي تظهر أن السوداوية الغربية لا تتأتى من فراغ، بل من حقائق وأرقام عن الدول الناهضة التي ستحجبهم رويدا رويدا عن صدارة المشهد، ببساطة لأن كل قوة صاعدة لا بد ستحجب أخرى كانت موجودة.

وإذا كانت أخبار الصعود الصيني أو ما يسمى بـ«التنين الأحمر» قد ملأت الصفحات وشغلت الاقتصاديين، فإن المثير الآن هو الكشف عن الهند كقطب، بدأ يأكل الوظائف الأوروبية والأميركية ويقضمها بشهية مرعبة. ويقول محللون إنه بعد أن أجهزت الصين على اليد العاملة الغربية، باستقطاب كبريات المصانع العالمية بفضل منتوجاتها رخيصة الثمن، التي تبدأ بألعاب الأطفال ولا تنتهي بالمقلد من أشهر الماركات، فإن الهند تأتي لتنهي أسطورة الطبقة الوسطى في الغرب التي ظنت أنها في مأمن من المنافسة في زمن العولمة.

ويحذر هؤلاء من الاستخفاف بالهند التي تعطي انطباعا بأنها أشبه بواحدة من دول أفريقيا المنكوبة، بشوارعها المعفرة، وفقرائها الكثر، كما سوء حال الماء فيها والكهرباء. وهو ما لم يعد عائقا على ما يبدو أمام النهوض الاقتصادي، تماما كما أثبتت الصين أن الديمقراطية ليست ضرورة للوصول إلى نجاح تجاري يملأ الدنيا ويشغل الناس.

وهجرة الوظائف من أوروبا الغربية وأميركا إلى المكسيك وبولونيا أو الصين، في زمن باتت فيه الشركات العابرة للقارات تستوطن حيث تطيب لها التكاليف ليست بالأمر الجديد، لكن حجم ما يحدث في شبه القارة الهندية، التي يزيد سكانها على مليار شخص، هو الذي يجعل حجم المخاوف أكبر وأعظم، عند سكان القارة البيضاء، حتى وصف أحد المحللين الهند بأنها تحولت إلى «قوة ضاربة في مجال المعرفة».

كلمة السر في الهند، ليست في الحرية، ولا الديمقراطية أو حقوق الإنسان، وإنما في ثلاثة ملايين خريج سنويا بينهم 300 ألف مهندس، تسعى شركات موجودة في الهند بكل ما أوتيت من إغراء، لإبقائهم في بلادهم، بعد أن كانت أميركا تسحبهم إليها. وبفضل الأسعار التي ما زالت متدنية فإن الشركات العالمية الكبرى صارت تجد لها ملجأ في الهند، يؤمن لها السعر المعقول والدماغ الذكي، واليد العاملة النشيطة. وبالتالي فإن الهند اليوم باتت أحد أهم المراكز الاستراتيجية لشركة «آي بي إم»، وثاني أكبر مركز في العالم، بعد الولايات المتحدة، للشركة العملاقة «سيسكو سيستم»، كما أن فيها مركزا كبيرا لأبحاث ميكروسوفت يعمل فيه 4000 مهندس هذا غير الموظفين الذين يعدون بالآلاف. وليس غريبا أن يعتبر بيل غيتس الهند بأنها تنطوي على «أضخم احتياطي عالمي لمهندسي الكومبيوتر». فثمة من يمتلك النفط ويكتفي به، وهذا حالنا، وهناك من يصنع نفطه بيديه، وهو ينمي عقول أبنائه.

لم نبد اهتماما بالنموذج الصيني، رغم أنه شرقي، وتجمعنا به أوجه شبه، ولم نعر النهضة اللاتينية اهتماما مع أنها يمكن أن تلهمنا ولا حتى الماليزية المسلمة مثلنا. وها نحن أمام نموذج آخر، من نوع مختلف في الهند، بينما تخوض شعوبنا حروبها الداخلية وثوراتها من أجل حياة أفضل. فالهند على شاكلتنا استغلها الاستعمار واقتطع منها أجزاء، وحاول تركيعها، لكن اجتمع لما تبقى منها الامتداد الجغرافي والعدد البشري، وهذا بحد ذاته إنهاك للدولة، حين لا تكون قادرة على إطعام أبنائها.

تحايل الهنود على كل معوقاتهم، تجاوزوها، وضعوها وراء ظهورهم. قرأوا كما قرأنا في نهاية القرن الماضي أن المستقبل هو لمن يمتلك البرمجة والقدرة على الإبحار والتحكم في الشبكة العنكبوتية. جهزوا أدمغتهم، غذوها بالعلم والمعرفة واستبقوها بينهم، كي يأتي من يريدها ويحتاجها، ويوظفها في ديارها، ولم يصدرها بعلب الهدايا الأنيقة والملفوفة بالسيلوفان.

إذا نجت المنطقة العربية من التقسيم والفتنة، وربحت الثورات رهاناتها، وهذا لا يزال موضع شك، فإن أماكن كثيرة، في هذا العالم المتغير، لا تزال محجوزة للراغبين في الصعود. علما بأن وصفات النجاح حين يتأمن العقل، وتشحذ الإرادة لم تعد صعبة ولا سرية، بل مبسوطة لمن يريد. وستكون مأساتنا كبيرة لا بل وعارمة، إن بقينا نظن أن الشقر أسيادنا، رغم أنهم يخسرون جولاتهم حد الإنهاك، ونعتبر الهنود مجرد خدام رخيصي الثمن في ديارنا، بينما هم يلعبون بمصير العالم بنقرات أصابعهم.