إلى عرفات الله

TT

قدر الله أن أؤدي فريضة الحج وأن أقف على جبل عرفات مرتين. المرة الأولى منذ عدة سنوات قد تصل إلى أكثر من ثلاثين عاما، وأيامها كنت وزيرا في وزارة الدكتور عبد العزيز حجازي، ولكني مع ذلك حرصت على أن أسافر بعيدا عن كل المظاهر الرسمية والشكلية، وحرصت على أن أتحمل نفقات الحج كاملة، ورحلت إلى المدينة المنورة وتمتعت بعبق المسجد النبوي الكريم، وكان في صحبتي الأخ العزيز الأستاذ الدكتور إبراهيم بدران، وبإرادة الله، ثم بفضله، فُتحت له وأنا معه الروضة الشريفة، حيث أمضينا عدة ساعات أظن أنها كانت أجمل وأهدأ وأسعد لحظات العمر قاطبة. ثم ذهبت إلى مكة ثم إلى منى.

وهناك - لست أدري كيف كان ذلك – علم «سلطان الخير»، الأمير سلطان بن عبد العزيز، وكان أيامها وزيرا للدفاع ومفتشا عاما للمملكة، ولم يكن تولى ولاية العهد بعد، علم بوجودي فإذا به يرسل إليّ ويأمر بنقلي إلى منزل ضخم للضيافة، وجدت فيه بعض رؤساء الدول الإسلامية الذين كانوا يؤدون فريضة الحج ذلك العام، وكان من بينهم الرئيس جعفر النميري. وتغيرت الصورة بالكامل. جزى الله سمو الأمير الراحل عني خير الجزاء وأجزل ثوابه ورحمه بقدر ما قدم لبلده وأمته وللناس جميعا من خير وفير.

وفي هذه الأيام المباركة الطيبة يحلو للإنسان أن يتجه إلى الله متضرعا، ويحلو لي أيضا أن أسمع أغنيات معينة لسيدة الغناء العربي أم كلثوم - رحمها الله رحمة واسعة - ومن ذلك «إلى عرفات الله»، ومنها أيضا أغاني رابعة العدوية التي تقول فيها:

على عيني بكت عيني

على روحي خبت روحي

وتقول:

مددت إليك يدي

فخذ بيدي

ويدخل الإنسان في أجواء من الإيمان، بل التصوف، وما أحلى بعض صور التصوف أحيانا، خصوصا عندما تضيق أمور الدنيا وتكفهر.

والتصوف مدارس متعددة ودرجات متباينة، وقد أدعي أنني أحد تلاميذ المتصوف الإسلامي الكبير محيي الدين بن عربي، الذي يقول في بعض قصائده:

أدين بدين الحب أنَّى توجهت

ركائبه فالحب ديني وإيماني

ويقول في نفس القصيدة إن قلبه يسع المسجد والكنيسة والمعبد جميعا. وهو «معنى عميق جميل»، وقد يتساءل البعض: هل التوجه التصوفي يبعد الإنسان عن الحياة العملية والعلمية؟ تقديري أن ذلك غير صحيح، خصوصا عند المعتدلين من المتصوفة.

تقديري أن التصوف الإسلامي لا يمكنه أن يبعد الإنسان عن العلم وعن الحياة، ذلك أن التفكير العلمي يوشك أن يكون فريضة إسلامية، على حد تعبير أستاذنا عباس العقاد في كتاب له يحمل هذا العنوان «التفكير فريضة إسلامية». والذي يقرأ القرآن يقول «لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ»... و«أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ»... و«قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا»... و«إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ»، ذلك أن العلماء عندما يقتربون من أسرار الكون يقتنعون بوعي كامل بقدرة الله الخالق وروعة الخلق.

هذه بعض الخواطر خطرت في ذهني ونحن في يوم وقفة عرفات، جعله الله يوما مباركا طيبا وأعاده على الشعوب الإسلامية وعلى الأمة العربية وقد التأمت بعض الجراح، ذلك أن كل جراحنا من الصعب أن تلتئم في عام أو بضعة أعوام.

إنها بضعة خواطر جاشت بوجداني وأحسست برغبة أن أشرك معي قراء «الشرق الأوسط» الأعزاء... وكل عام وهُم جميعا بخير.

وإلى لقاء مع همومنا العربية والمصرية التي لا تنتهي، في الأسابيع القادمة إن شاء الله.