«عروبة» برلسكوني

TT

الإيطاليون ناقمون، والأوروبيون قلقون، وقادة دول مجموعة «العشرين» محبطون...

جميعهم يطالبون رئيس الحكومة الإيطالية، سلفيو برلسكوني، في السر والعلن، بالتنحي عن السلطة، بعد أن أصبح جزءا من أزمة بلاده التي تهدد بأن تتحول إلى أزمة أوروبية وربما عالمية.

الأزمة مردها تحول إيطاليا، في عهده، إلى الدولة التي تنوء بحمل رابع أضخم دين في العالم، بينما برلسكوني عاجز عن الخروج بمبادرة تعوم إيطاليا وتنقذ اليورو، وترفع عن أوروبا عبء مساعدة بلاده في أحرج مرحلة مالية تمر بها، ليبقى همه الأول الاستمرار في الحكم.

مآخذ الأوروبيين على برلسكوني أكثر من أن تحصى. ولكن اللافت فيها أن في مقدمتها ظاهرتين عربيتين بامتياز: نفوره من تقليد تداول السلطة - حتى في ظل النظام الديمقراطي - ونزعته المتكررة للنكوص بوعود الإصلاح التي يبذلها بسخاء، ولكن «عروبته السياسية» الحقيقية تتجلى في تشبثه العنيد بالحكم منذ عقدين من الزمن. وإصراره على الاحتفاظ بالسلطة طيلة هذه الفترة يشكل إنجازا سياسيا غير مسبوق في دولة تعاقبت أكثر من ستين حكومة على كراسي الحكم فيها منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.

سلفيو برلسكوني دخل التاريخ كأطول رئيس حكومة عرفته إيطاليا من حيث فترة ولايته..

ولكن ذهنيته السياسية «العربية» لا تقف عند هذا الإنجاز، فرغم مصداقيته المعدومة حاليا وشعبيته المنهارة، لا يزال «يستميت» لإنقاذ حياته السياسية والبقاء في الحكم لغاية عام 2013، متحديا سجلا حافلا بالفضائح، في الداخل، وعزلة دولية متزايدة في الخارج.

في ضوء هذه الخلفية، هل يلام قادة الاتحاد الأوروبي على مطالبتهم برلسكوني بالتنحي عن الحكم، لضمان تقيد إيطاليا بوعدها المبدئي بالسير في مخططهم المقترح لإعادة هيكلة ديونها؟

المنطق الأوروبي يقول إن فشل برلسكوني في الخروج ببرامج إصلاحية على مدى عقديه المنقضيين في الحكم، مؤشر لا يشجع الوثوق بتغيير عاداته السياسية.. ولذلك، عليه أن يرحل (وقد ذهبت صحيفة «فايننشيال تايمز» البريطانية إلى حد استعارة جملة من قاموس أوليفر كرومويل لتقول له: «باسم الرب وإيطاليا وأوروبا: ارحل»).

هذا، طبعا، في المنطق السياسي الأوروبي.

أما في المنطق السياسي العربي، وبعد أن عايش برلسكوني في العقدين الماضيين «نخبة» من أقرانه العرب المتسلطين على الحكم والمتسلطين على شعوبهم، ألا يحق له أن يتساءل عن جدية ذنبه إذا قصر في الحكم وتشبث بالسلطة؟

اللهم ليس دفاعا عن حاكم أوروبي، إن نجح في شيء ففي توظيف نفوذه لحماية إمبراطوريته التجارية الضخمة، ولصد محاولات القضاء الإيطالي التحقيق في عدد من الفضائح المثارة حوله.

ولكن يحق لبرلسكوني أن يقول للأوروبيين والإيطاليين: تشبثت بالحكم بفعل مناوراتي الناجحة ووعودي الكاذبة.. ولكني لم ألجأ، مثل أقراني العرب، إلى القتل والتقتيل والهدم والتدمير لأحتفظ بـ«عرشي» المتهاوي.

ويستطيع برلسكوني أن يذكرهم أيضا بأن مناوراته السياسية، وإن ركزت على إطالة حكمه بأي وسيلة ممكنة، بقيت في إطار اللعبة الديمقراطية ولم تصل يوما إلى حد التحايل عليها عبر ممارسات توسلها أقرانه العرب، مثل السعي لتوريث السلطة للأبناء أو تحويل حزبه إلى ناد خاص بالأتباع (كما يتضح من توجيه ستة من أعضاء حزبه كتابا مفتوحا له يطالبه بالاستقالة من رئاسة الحكومة).

ربما حالت تركيبة إيطاليا الديمقراطية دون بلوغ برلسكوني هذا الحد من الجموح السياسي، وربما ساعد نظام فصل السلطات على الحؤول دون امتداد نفوذه إلى المؤسسة العسكرية وتجنيدها لتنفيذ بعض مآربه السياسية كما يفعل المتسلطون العرب.. ولكن برلسكوني يبقى مثالا حيا على أن ذهنية التسلط على الحكم لا تقتصر على الساحلين الجنوبي والشرقي للبحر الأبيض المتوسط.. وحسب.