العراق وعفريت الأقاليم

TT

من الصعب جدا أن نجد البعض يعيد إحياء مشاريع قديمة تم رفضها في حينها والنظر إليها على أنها ستجعل من العراق كانتونات متعددة وفق مسميات طائفية وعرقية ومذهبية ليس لشيء إلا لتحقيق نوازع بعيدة جدا عن طموحات الشعب العراقي.

ما أثير مؤخرا عن إقليم صلاح الدين، لم يتوقف عنده البعض لمعرفة أسبابه ودوافعه، ولم يفكر المسؤولون في مجلس محافظة صلاح الدين في خطورة هذه الخطوة التي يراد من خلالها التعبير عن مخاوف تكتنز البعض وتجعلهم يعبرون عنها بشكل خطير جدا.

ولكن ما أثار الأسئلة أكثر هو التوقيت، هذا التوقيت الذي تزامن مع حدثين، الأول هو اقتراب الانسحاب الأميركي من العراق، والثاني اجتثاث عدد من التدريسيين والموظفين في جامعة صلاح الدين على خلفية قانون المساءلة والعدالة الذي يتحفظ الكثير من القوى السياسية عليه.

وعلينا هنا الربط بين الانسحاب والاجتثاث وإعلان الإقليم، الانسحاب بحد ذاته سيعيد التوازنات السياسية في العراق وسيعيد ترتيب التحالفات أيضا وسيغير من الخطاب الإعلامي للجميع وفق المتغيرات الجيوسياسية التي ستحصل جراء هذا الانسحاب.

وبالـتأكيد فإن الاحتلال الأميركي أوجد معادلة سياسية في البلد، معادلة أحيانا كثيرة كانت مرفوضة، واعتبرها البعض أجندة تنفذ بأدوات عراقية، وأوجد أيضا ما يمكن تسميتهم بأمراء طوائف، وتعامل الاحتلال الأميركي مع القوى السياسية العراقية وفق هوياتها الثانوية وجردها بشكل أو بآخر من هويتها الوطنية، فوجدنا من يمثل السنة ومن يمثل الشيعة، عناوين ابتدعوها ليكونوا في صدارة المشهدين السياسي والإعلامي على مدى السنوات الماضية، لا نكتم كان هناك صراع بين هؤلاء الأمراء من كلا الطائفتين.

وهذا ما جعل النخب السياسية العراقية تهمل حلقة مهمة من حلقات البناء المؤسساتي للدولة العراقية، والذي يتمثل في خلق مناخ مناسب بين القوى المتناقضة فيما بينها بما يؤمن بناء جسور ثقة متينة في السنوات الماضية.

لكننا بدلا من ذلك وجدنا الأحزاب والقوى السياسية العراقية بعد عام 2005 جرت الشارع العراقي لحرب أهلية راح ضحيتها الآلاف من الشعب العراقي على خلفية طائفية، ونجحت القوى السياسية في نصب فخاخ الطائفية إن لم تكن قد رسختها في البلد وحققت نجاحات كل في طائفته في انتخابات عام 2010 مما كرس مفهوم الطائفة على حساب الدولة التي بدأت أكثر ضعفا من قبل.

هنا مع قرب مواعيد الانسحاب الأميركي ما الذي يجري؟ هل تحولت هواجس عدم الثقة إلى مخاوف حقيقية؟ وماذا تريد القوى السياسية العراقية من الشعب؟ بالتأكيد هناك أكثر من سيناريو تسعى إليه بعض القوى السياسية، السيناريو الأول يتمثل في جر البلد لحرب أهلية ثانية بذات الأدوات والآليات القديمة، وهذا من الصعب أن يحدث لأسباب كثيرة، أولها أن النخب السياسية الموجودة حاليا في الشارع العراقي ليست محل ثقة الشعب وغير مستجاب لها ولدعواتها مهما كانت أسبابها وتوجهاتها من جهة، ومن جهة ثانية الشعب العراقي لا يريد تقديم قرابين جديدة لكي يصل من خلالها هذا وذاك لمنصب يسعون إليه.

الجانب الثاني يتمثل في أن الكثير من النخب السياسية هذه باتت مكشوفة وتصنع نهايتها بنفسها مع نهاية الوجود الأميركي في العراق، وعليها أن تدرك جيدا أن وجودها كان مرتبطا بالوجود الأميركي وعليها الآن أن تعيد قراءة الواقع العراقي الجديد بعد حذف أميركا من المشهد والتصرف وفق هذا المنظور، فإن عجزت هذه القوى عن إدراك هذا فعليها الصمت وعدم صناعة حدث يديم وجودها على حساب أرواح العراقيين ومستقبلهم.

السيناريو الآخر وهو في المتناول ويتمثل في دفع عدد من المحافظات لأن تشكل إقليما أو مجموعة أقاليم ومحاولة إحياء مشروع بايدن بتقسيم العراق لثلاث دول، كردية وسنية وشيعية طائفيا، وشمال ووسط وجنوب جغرافيا.

هذا المشروع بحد ذاته رفضته القوى السنية والشيعية معا وما زالت ترفضه كما رفضته القوى الإقليمية وفي مقدمتها الدول العربية الساعية لعراق موحد، لكن المشكلة تكمن في أن من جعلتهم أميركا أمراء طوائف يتحدثون الآن باسم السنة واسم الشيعة ويحاولون فرض ما رفضوه بشتى الطرق متناسين أن الشعب العراقي لا يتعامل الآن بعقلية 2006 وما تلاها، بقدر ما أنه يريد أن يكتشف نفسه من جديد في العراق وليس في أقاليم ربما يصممها البعض على مقاساته الخاصة، وبذلك يرتكب خطأ تاريخيا كبيرا ولن تغفر له الأجيال القادمة هذا الخطأ.

الطائفية كانت شبحا مقيتا عاشه الشعب العراقي بسنته وشيعته وتجاوزوه بصعوبة وتضحيات كبيرة، ولا نريد أن تكون الأقاليم عفريتا من الصعب إخراجه بالبخور والحرمل، خاصة إذا ما كان هذا العفريت هو الحل الذي يجده البعض مناسبا.