برج الجغرافيا

TT

هل من السخف القول إن لبنان يشبه أفغانستان؟ لا. على الرغم من الفوارق الهائلة في طبيعة البلدين وطبائع الشعبين، كلاهما بلد لا تكف الجغرافيا عن دفعه إلى ساحات وتقاطعات التاريخ. لو تجاهل الغرب احتلال السوفيات لكابل، كما تواطأ من قبل مع احتلال أوروبا الشرقية، لربما بقيت أفغانستان في وضعها الحقيقي؛ بلدا منسيا، يعيش في البرد بين الجرود.

لكن أفغانستان الغارقة أبدا في الفقر، كانت دائما موقعا استراتيجيا في طريق الإمبراطوريات.

لبنان بلد صغير، تربع على حافة المتوسط يستقبل الغزاة بالرياحين ويودعهم بالعصي. ليس له شأن يجعل منه شريكا رئيسيا في التاريخ، لكنْ له موقع يجعله منخرطا أو متورطا في جميع المراحل التاريخية في المنطقة. كانت القضية الفلسطينية تواجه كل الصراعات، العربية والدولية والإسرائيلية، في بيروت. وكانت بيروت بعد الحرب العالمية الثانية مرصدا لتيارات الشرق الأوسط. وضع فيها السوفيات كيم فيلبي، أشهر جواسيسهم، ونشر فيها الغرب أبرع جواسيسه.

ولكن الثمن كان باهظا. فهو الذي دفع ثمنا كبيرا في الصراع العربي - الإسرائيلي، ودفع ثمنا في الحرب الباردة، وهو الذي تحول ساحة عسكرية رديفة في الصراع السوفياتي الأميركي. وبعده انتقل محور الصراع إلى أفغانستان، التي لم تكن حتى ذلك الوقت على خريطة أحد. لكن الأميركيين هالهم أن يتحول بلد جار للهند، الصديقة للروس، إلى قاعدة سوفياتية، وقريبة من الصين المشكوك في مودتها المستجدة.

هل كان يمكن أن تهدد كوبا بخطر حرب عالمية لو لم تكن قبالة شواطئ فلوريدا؟ ألم تكن هافانا من قبل مجرد مرتع للمافيا الأميركية وصغار السياح؟ هل كانت تهدد بحرب عالمية لو كانت في منغوليا؟ ربما كان نابليون أول من قال إن الجغرافيا هي التي تصنع التاريخ. لكنها تصنع أيضا الجزء العشوائي منه. فعندما هدد الرئيس بشار الأسد بإحراق المنطقة لم يستطع اللبنانيون أن يتجاهلوا أنهم أصحاب الحدود الأضعف (وغير المرسمة في أي حال). وعندما اشتدت الأزمة الأميركية الإيرانية الإسرائيلية، أول ما خطر للمحللين القول إن الرد الإيراني قد يتم عبر جنوب لبنان، مما ينسف وضع القوات الدولية ويلغيه.

يتعين على لبنان الآن أن يدفع جزءا من ثمن العقوبات الاقتصادية على سوريا. التحذيرات تتعالى ضد أي محاولات للعب دور هونغ كونغ يوم كانت الصين محاصرة. تليها تحذيرات دولية أخرى حول تسديد حصة الدولة من تكاليف المحكمة الدولية. هي محكمة لا يرفضها فقط حزب الله، بل سوريا وإيران أيضا، مما يجعلها قضية إقليمية لا محلية.

في السنوات الخمس الماضية كان لبنان مركز نفوذ مصري ثم فلسطيني ثم سوري، مقابل النفوذ الغربي. والآن أصبح أيضا مركز نفوذ إيراني. وهو يجلس ويتمنى ألا تحشره الجغرافيا في مدار التاريخ.