سلمان.. «تصعيد الدور» برصيد 5 عقود من «فن الحكم»

TT

الحمد لله من قبل ومن بعد.. هذا هو شعور المسلم وقوله حين يستشعر - بحق - نعمة الله عليه.. هذا هو شعور المسلم تجاه نعمة واحدة، فكيف إذا كانت النعم تترى متدفقة مركبة؟.. لقد تكاثرت علينا نعم الله ومواهبه - نحن السعوديين - وبصورة جعلتنا لا ندري بأيها نحدث.. أنتحدث عن الاصطفاء الرباني لهذه البلاد لكي تكون وعاء جغرافيا كريما لبيته الحرام الذي حرمه - جل ثناؤه - يوم خلق السموات والأرض؟.. أم نتحدث عن تشريف قادة السعودية بخدمة الحرمين الشريفين، وعن الإمكانات الهائلة التي وهبها الله للسعوديين فسخروا قسطا جزيلا منها لإعمار الحرمين وخدمتهما على نحو غير مسبوق في تاريخهما؟.. أم نتحدث عن موسم حج هذا العام الذي وصف بأنه «أنجح وأعظم موسم حج» من حيث التنظيم والتيسيرات الرائعة الجديدة التي جعلت الحاج يشعر وكأنه في نزهة ممتعة.. ومن حيث الأمن الوطيد العميم وسعادة الحجاج بذلك كله؟.. أم نتحدث عما رافق ذلك ووافقه من «تجديد الهيكلة العليا في قيادة البلاد»، وتحقيق ذلك بلا ضجيج ولا صخب، بل تحقق بهدوء وسلاسة سكبا في نفوس الناس الطمأنينة على الحاضر والمستقبل؟

ولئن تركز مقال الأسبوع الماضي على مبايعة الأمير نايف بن عبد العزيز وليا للعهد السعودي ونائبا لرئيس مجلس الوزراء، فإننا نفرد هذا المقال لشخصية أخرى، كبيرة وقيادية في قمة هرم الدولة.. هذه الشخصية المالئة للسمع والبصر - من قبل ومن بعد - هي: الأمير سلمان بن عبد العزيز الذي عين وزيرا للدفاع في السعودية.. إن هذا الرجل النادر إذ يصعد إلى أداء دور جديد فهو إنما يصعد على أساس رصيد ضخم من «فن الحكم»، مداه خمسة عقود أو يزيد.

وهو يؤدي القسم أمام الملك عبد الله بن عبد العزيز قال الأمير سلمان: «إنني أتطلع لتحقيق أهدافكم في تطوير وزارة الدفاع بتفان».. هذه العبارة الموجزة بالوعد في التطوير تستند إلى رصيد نصف قرن من تطوير مدينة الرياض ومنطقتها، ومن ممارسة فن الحكم عبر هذه السنين وخلالها.. ولسنا نتحدث عن فن الحكم عند سلمان كخاطرة خطرت لنا بعد تعيينه وزيرا للدفاع، ذلك أن فن الحكم عنده موضوع عريق أصيل، ولذا عقدنا له فصلا خاصا في كتابنا «سلمان بن عبد العزيز: الجانب الآخر».. نعم.. ولفن الحكم عنده منابع رائقة ثرة من بينها:

أ) المنبع الجغرافي.. فقد كانت «الرياض» هي «قاعدة الانطلاق والتأسيس».. ومعروف في الفكر السياسي أن للموقع الجغرافي أثرا عميقا في الساسة والقادة، فكيف بموقع جغرافي هو عاصمة لبلد جغرافيته «وعاء الحرمين الشريفين»؟.. والأمير سلمان أدرك بألمعيته هذا المعنى العميق، فعبر عنه بقوله: «نحن السعوديين بشر كسائر البشر في الأمور العادية. ومن هنا، فإن خصوصيتنا الحقيقية هي أن أرضنا مهبط الوحي، موئل الحرمين الشريفين، ومنطلق الرسالة، ومهاجر رسول الله عليه الصلاة والسلام».

ب) المنبع الثاني: التاريخ العربي الإسلامي. لقد نشأت في هذه البلاد ذاتها أول نهضة عربية إسلامية، وهي نهضة تسامت بالعرب في كل جانب، وأضاءت بنورها ومعارفها العالم كله في مجالات شتى، لا سيما مجال السياسة والحكم.. إن هذا التاريخ رافد خصيب من روافد الحكم عند الأمير سلمان، ومما زاد هذا الرافد ثراء وتدفقا: شغف سلمان بالتاريخ: قراءة وإدراكا وتمثلا.

ج) المنبع الثالث من منابع الحكم عند الأمير سلمان بن عبد العزيز هو «المنهج»: منهج الإسلام. فقد أثمر هذا المنهج علما غزيرا أصيلا، وفكرا سياسيا سديدا عرف - اصطلاحا - بـ«السياسة الشرعية». وخلاصة هذه السياسة الشرعية هي رعاية مصالح الناس وتنميتها وتطويرها - في كل عصر - بمقتضى قواعد الشريعة ومقاصدها، وهي سياسة استوعبها الأمير النابه واستصحبها - دوما - وهو ينظر في مصالح الناس ويرعاها ويديرها بحنو وأريحية وفاعلية.

د) المنبع الرابع لفن الحكم عنده هو «مباشرة المسؤوليات»، بمعنى أنه يشرف بنفسه على الوقائع والأحوال والقضايا ويبت فيها.. وهذه المباشرة الميدانية للمسؤوليات هي واحد من أهم واجبات الحاكم عند الإمام الماوردي. ولفن الحكم - عنده - امتداد خارجي، وهو مد البصر والوعي إلى الأفق الخارجي: القريب والبعيد.. ولهذا الاكتراث بالبعد الخارجي مصادره ومقتضياته العديدة عنده.. ومنها: الانفتاح العالمي الهائل الذي تعلمه أبناء الملك عبد العزيز من والدهم المؤسس - ومنهم سلمان - فهذا الملك الكبير لم يكن «انغلاقيا» قط، ولا تحد وعيه ورؤيته حُجب محلية محدودة، بل كان «شخصية عالمية» في رؤيتها ومسؤوليتها وحركتها وعلاقاتها.. ومن تلك المعطيات علاقات سلمان الشخصية الواسعة والمتنوعة مع رؤساء دول ووزراء ومفكرين ومثقفين ومؤرخين وإعلاميين عبر العالم كله.. ومنها: تضلعه في التاريخ السياسي، الإقليمي والدولي.. إلى غير ذلك من المعطيات الموضوعية التي كونت رؤيته المجلوة للشؤون الخارجية.. ورابعة جميلة وهي أنه في علاقاته الخارجية يتسلح بـ«الوضوح» في حواراته مع الآخرين.. مثلا في لقائه مع وفد من جامعة هارفارد الأميركية، حين سأله الوفد عن الإصلاح والمحافظة - في المملكة - قال الأمير سلمان: «إن ما يهمني هو مسؤولية الدولة، وتتمثل هذه المسؤولية في المزج بين التيارين واستخلاص الأصلح من كل منهما. وأنا لست منزعجا من ذلك، فالدولة منذ التأسيس تسعى إلى الأفضل اجتماعيا وسياسيا وإداريا وحضاريا. أنا لست من أنصار (الصبر الزائد)، ولا من أنصار (العجلة الزائدة). فإن الخير والمصلحة والحكمة تكمن في (خيار وسط) وهو التطوير النشط الدائم دون جمود ولا تهور: دون بطء مميت ولا سرعة قاتلة».

ثم لن تبرأ الذمة، ولن تكتمل صورة المشهد السعودي، إلا بتسجيل أعلى مناسيب التقدير والعرفان للملك عبد الله بن عبد العزيز: الربان الماهر الذي قاد السفينة السعودية بحنكة ومسؤولية ورؤية ثاقبة.. ومتى؟.. في زمن عصفت فيه الرياح الهوج العاتية بكل السفن تقريبا.. وهذه أعمال تاريخية كبرى تحسب لهذا الرجل الكبير القامة، وهي أعمال وراءها منظومة من المبادئ والقيم والفضائل التي يتحلى بها ومنها أنه يحسن التوازنات، ويحسن الاختيار، ويحسم القرار بموجب خصال أربع أصيلة لديه:

أ) الإحساس الدقيق بأمانة المسؤولية والحكم.

ب) الحرص الشديد على تماسك الأسرة الحاكمة ووحدتها.

ج) الحرص الشديد - من ثم - على الوحدة الوطنية.

د) الإدراك المستنير لضرورة ترتيب الأوضاع كافة لأجل التفرغ لمهمة التحديث والتطوير والتجديد ودفع البلاد خطوات أوسع إلى الأمام لكي تقلع إلى المستقبل الواعد بهمة وعلم وطموح، مستمسكة بمنهجها الإسلامي، فاتحة أبوابها لكل جديد وإبداع نافع يتوصل إليه بنو الإنسان في أي بقعة على هذا الكوكب، تحقيقا لتوجيه نبي الإسلام - صلى الله عليه وسلم: «احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز».