العمامة والعسكر

TT

يبدو أن هناك معادلة سياسية، تثبت صحتها الأحداث في كل ما نشاهد من حراك عربي واسع في دول الانتفاضة العربية، سواء تلك التي أطاحت بالنظام القائم في بلدانها، أو التي في الطريق إلى ذلك.

هذه المعادلة تقول لنا إن هناك ارتباطا طرديا بين النظام ومعارضيه. فكلما كان النظام قمعيا وعشوائيا وفظا، كانت معارضته من نفس قماشته. الأمثلة كثيرة وواضحة، لنبدأ بالعراق الذي كانت تحكمه قلة ديكتاتورية وقمعية، استخدمت البطش للبقاء في سدة الحكم، ماذا انتهى إليه؟ انتهى أيضا إلى نظام ديكتاتوري في صلبه مجموعة متحكمة من القوى الطائفية المعتمدة على آيديولوجيا يتحكم فيها فكر الانفراد بالسلطة، ونتج عن ممارستها نفي الآخر المختلف، بصرف النظر عن نتائج صناديق الاقتراع.

وعلى الرغم من أن قمع النظام السياسي المصري السابق كان قمعا «معتدلا»، إن صحت التسمية، فإن معارضته من نفس نوعه، فها هي القوى المنظمة المصرية المعتمدة على آيديولوجيا نفي الآخر، تستعد للقفز على السلطة، تحت شعارات آيديولوجية تصر على نفي الآخر وتهميشه، هذه المعادلة تقول لنا بوضوح لا يقبل الجدل إن الإطاحة بالطغاة لا تضمن تحقيق ديمقراطية بالمعنى الشامل أو المتوقع والحديث.

إن الإطاحة بالطغاة يمكن أن تخلق طغاة آخرين، يختلفون في المظهر لا المخبر، ففي البيئة الثقافية السياسية التي عشناها ونعيشها نحن العرب، أصبح طبيعة ثانية فينا قبول الشمولية، ففي صيرورة تاريخية، من اعتاد على الطغيان، يفضل أن يستمر فيه بأسماء أخرى.

مرة أخرى في مصر، ما إن ظهرت بعض الأصوات التي تنتقد التصرف السياسي للمجلس العسكري، حتى قامت قائمة البعض بالتصدي لتلك الأصوات على أنها تريد «هدم الدولة المصرية» تجنيبا للرأس من النقد، وتحصينا لمن هم في السلطة. الصيرورة التاريخية العربية بما أنها من صنع بشر، فإنها حبلى بالاحتمالات، وحالة الحرية التي يشتاق إليها الناس اليوم، ستكون حالة من «الحرية المنظمة» ومن ينظمها سيكون الأكثر قدرة على اختطاف المزاج العام، سواء كان ذلك بعمامة أو ببدلة عسكرية، الأمر سيان.

إن حالة من عدم اليقين تنتاب المراقب وهو يرى التطورات الحادثة في بلاد ربيع العرب، فتونس تسلم جل زمامها إلى حزب غير مجرب سياسيا، أدبياته مثل قوس قزح، فيها كل الألوان السياسية، يتحكم فيها فكر «التحفظ» أكثر من فكر «التقدم». أما الحالة الليبية فهي مكان اختبار أوسع.

في ليبيا نشهد المعادلة بأكثر ما يكون من الوضوح، فقمع العقيد السابق أنتج معارضة من نوعه، ولأول مرة نشهد رفع علم «القاعدة» الأسود خارج كل من أفغانستان والعراق. وتجاوزا لما قيل في أول بيان بعد مقتل القذافي، من السيد مصطفى عبد الجليل، بالسماح بتعدد الزوجات وأيضا تطبيق الشريعة الإسلامية في الحكم الجديد، تجاوزا لذلك، فإن الحراك الليبي الداخلي العام يمكن أن يوصف بالتحفظ على آليات الديمقراطية كما عرفها العالم، فبعد أربعين عاما من تشجيع التشرذم القبلي والعشائري والمناطقي، لا بد أن يترك كل ذلك التراث رواسب كثيفة في عمق النسيج الليبي، فمشروع الدستور الذي أعلنه المجلس الانتقالي، وهو مكون من 30 مادة في عمومها معقولة، هذا المشروع وجد من يعارضه، فهيئة كبار العلماء الليبية، وهي جماعة عينت نفسها بنفسها، أصدرت بيانا في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي تناقض فيه نصوص ذلك الإعلان الدستوري، وطالبت بأن تغير صيغة «الشريعة المصدر الرئيسي للقانون» كما جاء في الإعلان الدستوري، لتكون «المصدر الوحيد»، كما طالبت تلك الهيئة بأن يستشار «أهل العلم الشرعي» في كل القوانين التي تصدر من الهيئة التشريعية في المستقبل! وأيضا أن تستكمل عبارة «الشعب مصدر للسلطات» بعبارة «فيما لا يناقض الشريعة». أما المضحك المبكي فاعتراض تلك الهيئة على المساواة بين الجنسين، حيث لا مساواة بين «المختلفين خلقًا» كما جاء في بيانها، أما تخصيص نسبة للنساء في الهيئة التشريعية في المستقبل، فهو من وجهة نظر تلك الهيئة «غير ديمقراطي!».

لقد تم الإخلال بالهوية الليبية في عصر القذافي القمعي، إلى درجة يصعب إصلاحها في وقت قصير، وبالتالي فإن نتاج ذلك الإخلال هو إخلال مضاد، فبعد تدفق السكان من خارج المدن إلى المدن الليبية، سطا على الثقافة العامة وفي ذاكرة عدد كبير من السكان قيم القبيلة وهي قيم تتناقض مع العيش في المدينة، كان ذلك مناسبا لحكم شمولي يريد إرضاخ كل المكونات الاجتماعية لمشيئته، وإن فرضت المصلحة السياسية استثمار التناقضات لإعادة تشكل التخلف، فلا ضرر من استخدامها. إلا أن تلك السياسة، بعد الإطاحة بالحكم القمعي، قد خلفت توجها - في أقله - مضادا للمثل الديمقراطية والتعايش المجتمعي، مما يسبب عقبة كبرى أمام أي تطور ديمقراطي.

مع انقضاء الديكتاتوريات الفظة، فإن ما فرضته تلك الديكتاتوريات لسنوات طويلة بدأ يكشف عن مكوناته، وهو التمحور القبلي الطائفي العشائري والمذهبي الذي كان يغذى من الديكتاتوريات في سبيل بقاء المجتمع منقسما ومتخلفا في آن.

تلك النبتة أزهرت تصدعا غير قابل للالتئام، مما يدفع الناس إلى التوق للسلطة المطلقة في سبيل تحقيق الأمان. لقد تبين لكل مراقب فطن أن ثقافتنا التاريخية العليلة جزء من محنتنا الراهنة، فالبعض ما زال بسبب جهله، أو بسبب مصالحه، يرفض تجديد الوسائل المفضية إلى حكم رشيد في إطار المبادئ الإنسانية العامة التي لا تناقض تراثنا السمح، بل يصر أن يستخدم نفس الوسائل لعصر مضى ويطبقها على تفاعلات القرن الواحد والعشرين، ويحمل معه في ذلك زرافات من البسطاء والمهمشين، من خلال آلية جديدة اسمها صناديق الانتخاب التي سوف تسفر عن حكم إما بقبعة عسكرية أو بعمامة، حتى لو كان الحاكم يلبس بدلة ورابطة عنق!

آخر الكلام:

مررنا في العقود الأربعة الأخيرة بأنواع من الجهاد، فمن الجهاد الإغاثي إلى الجهاد القتالي.. ألا يصح أن نفكر الآن في الجهاد الإنمائي!