المشير والرئيس والغموض المدمر (1)

TT

في الدبلوماسية هناك فكرة الغموض الخلاق التي تكون فيها الأفكار قابلة لتفسيرات عدة، فتسمح لأصحاب القرار بتسويق التفسيرات التي تناسبهم لشعوبهم على أنها مكاسب وانتصارات. وفي الثورة المصرية هناك الغموض المدمر الذي يلف ما حدث بين الرئيس والمشير قبيل تنحي الأول عن منصبه. الغموض الذي خرج لنا بالتفسير الذي يروج لمقولة إن «الجيش حمى الثورة»، وحتى الآن لا نعرف كيف حمى الجيش الثورة.. وممن حماها.. أم أن الحقيقة قد تكون في النهاية، التي قد نعرفها فيما بعد، أن ما حدث هو عكس هذه المقولة، وبهذا تكون الثورة هي التي حمت الجيش.

الكشف عمَّا حدث بين مبارك والمشير في الأيام الأخيرة للثورة، والكشف بشفافية عالية، هو ضرورة لنجاح الشرعية في مصر، فحتى الآن هناك بين المصريين من يرى أن المجلس العسكري هو جزء من النظام السابق، ولكي تنجح الثورة لا بد من التخلص من بقايا النظام السابق. وهناك من يقبل مقولة إن الجيش، ممثلا بالمجلس العسكري، حمى الثورة من حمام دم أراده مبارك. تصرفات المجلس العسكري تقول إنه مشاعريا عالق بين سكتين؛ فهو يضع قدما في سكة النظام القديم والقدم الأخرى في سكة الثورة.. هذا الإحساس المتناقض هو أساس تآكل الشرعية في مصر اليوم، وهو جزء أساسي من الفوضى القائمة. فلا الشعب مقتنع بفكرة أن الجيش حمى الثورة على الرغم من إدراكه أن الجيش هو المؤسسة الوحيدة الباقية التي تحمي الدولة المصرية من التبخر، وأن حكاية «الشعب والجيش إيد واحدة» لم تكن سوى تحالف تكتيكي من قبل الثوار بهدف مغازلة الجيش وأخذه بعيدا عن الانحياز لصف مبارك. والمجلس العسكري يعرف أيضا أن الشعب، أو قطاعات كبيرة منه، غير مقتنع بأن العسكر هم من حموا الثورة، حتى يسمعوا كلاما آخر. وإلى أن يتحدث المشير بشفافية عما حدث منذ يوم الرابع من فبراير (شباط) حتى يوم التنحي، سيبقى الشك معنا بسبب حالة الغموض وتبعاتها التي ستودي بمصر إلى مصير أقل ما يقال عنه إنه سيئ.

كل ما لدينا حتى اليوم هو روايات وتسريبات عمَّا حدث، وكلها تصب في الشيء ونقيضه في الوقت ذاته، وهي تصب بالتالي في تآكل تدريجي لشرعية النظام، بمجلسه العسكري وحكومته وحتى انتخاباته ودستوره. ولكي نعرف إلى أين يتجه المشهد المصري لا بد من وضع الروايات كلها في سياق واحد وقراءتها مجتمعة حتى تتضح الصورة. فمعظم الذين استمعوا إلى تلك الروايات سمعوها بشكل متفرق ومن أطراف مختلفة رأت الأحداث من خلال عدسات تحيزاتها. فمن كان في صف مبارك أكد رواية رغبة الرجل في التنحي، ومن هم مع المشير اليوم يريدون القول إن المشير كان هو اللاعب الأساسي الذي حسم المعركة لصالح الثورة. لكن قبل أن نحكم، علينا أن ننظر إلى الروايات مجتمعة.. فما الروايات المتداولة في صالونات القاهرة في قصة المشير والرئيس والثورة؟ وما مدى تأثيرها على الثورة وعلى المرحلة الانتقالية، وعلى ما تبقى من شرعية للنظام في مصر؟

الرواية الأولى تقول إن عمر سليمان أخبر الرئيس، يوم 4 فبراير، بأن جماهير التحرير في طريقها إلى القصر الرئاسي في مصر الجديدة، وحتى يجنب مصر سيناريو الكارثة عليه أن يقبل بفكرة التنحي أو التخلي عن سلطاته، فقال له الرئيس إنه يقبل بموضوع التنحي وعليه أن يكلم «حسين» لترتيب الأمر حتى لا تدخل مصر في دوامة الفوضى، و«حسين» هنا هو المشير محمد حسين طنطاوي الذي كان يناديه الرئيس دائما، حسب المقربين «يا حسين». وتحدث سليمان مع حسين طنطاوي، واتفقا على أن يترك الرئيس السلطة، على الرغم من أن طنطاوي لم يكن قابلا للأمر ببساطة، فاتصل به الرئيس وقال له، «يا حسين أنا قررت أن أترك المسؤولية لكم». فرد حسين: «مش كده يا أفندم، خليك شوية والأمور هتبقى أحسن بعد أيام»، لكن الرئيس أصر وقال له: «ربنا معاكم يا حسين». وأغلق الخط.. وكانت عادة الرئيس، حسب قول أصحاب هذه الرواية ممن يدعون قربهم الشديد ومعرفتهم المباشرة بالرئيس السابق، أن الرئيس لم يكن ليقول لمحدثيه «مع السلامة» في نهاية المكالمة، أو ينهي المكالمة بأدب، فقط كان يضع السماعة بعد أن يصدر أوامره. ووضع الرئيس السماعة، وحسب التقاليد العسكرية انتظر حسين طنطاوي حتى سمع «الكليك بتاع قفل الخط» وقفل بعدها هو الخط. بالطبع يبدو هذا كلام رجل قريب جدا من المشهد، وهكذا انتهى أمر المكالمة. وهذه الرواية تواردت من أطراف مختلفة تدعي أنها كانت قريبة جدا من اللاعبين الأساسيين في المشهد السياسي المصري وقتها.

الرواية الثانية تقول إن حسين طنطاوي ذهب إلى عمر سليمان وقال له: «يا عمر الشعب سوف يزحف على القصر ولا بد أن تقول للرجل إن الموضوع انتهى وعليه أن يتخلى عن السلطة». (طبعا حسب صاحب الرواية القريب جدا، لم يكن متوقعا أن تكون سلطة المشير على عمر سليمان بهذا الشكل، لكن كان هذا اكتشافا لنا، على حد تعبيره). وسمع عمر سليمان الكلام واتصل بالرئيس الذي كان قد غادر إلى شرم الشيخ وطلب منه أن يتنحى. وقال الرئيس: «اكتبوا خطاب التنحي، وأنا سوف أوافق عليه». وكتب خطاب التنحي في حضور صفوت الشريف والسفير سليمان عواد، كاتب خطابات الرئيس، والمتحدث باسم الرئاسة. ومع ذلك قبل الرئيس بشرط، وكان هذا الشرط ألا يذاع خطاب التنحي قبل أن يغادر أفراد أسرته إلى شرم الشيخ. وسجل عمر سليمان كلمة التنحي وتقررت إذاعتها عند مغادرة طائرة الرئاسة من مطار ألماظة إلى شرم الشيخ.. والبقية غدا.