الحذق والحذاقة في علاقة مصر بإيران

TT

الحذق هو المهارة في الصنعة وإجادة التفكير في كيفية حل المشكلات الناشئة عنها، أما الحذاقة فهي ادعاء ذلك كله. الأولى صاحبها حاذق والثانية تصفه العامية المصرية بأنه «حدق» وهي صفة مذمومة في كل الأحوال، وسلوك صاحبها أيضا مكشوف في كل الأحوال، وهي عادة ما تسير بصاحبها في سكة الخسارة والندامة.

في جريدة «الأخبار» المصرية (الاثنين 7 نوفمبر 2011) نجد على صفحتين حوارا مع الرئيس الإيراني أحمدي نجاد احتلت عناوينه الضخمة الصفحة الأولى، الواقع أنه ليس هناك جديد في كلماته، إلا إعلانه أنه يرحب بزيارة مصر إذا وجهت له الدعوة لزيارتها. توضيب الصفحتين المتقابلتين المعتنى بهما أشد العناية وصوره الفوتوغرافية التي التهمت نصفي الصفحتين تقريبا تعاونت بصدق مع أسئلة السيدة ثناء السعيد التي أجرت الحوار، في إيضاح الرسالة المطلوب إيصالها للشعب المصري وخاصة في سؤالها الأول وهو: في الحادي عشر من أكتوبر الماضي خرجت أميركا بمسرحية هزلية تدعي خلالها بأن إيران كانت بصدد تنفيذ عملية لاغتيال السفير السعودي في واشنطن وهو اتهام أرادت بواسطته تعميق الخلاف بين إيران والسعودية، كيف يمكن لكم قطع الطريق عليها وعرقلة ما تسعى إليه؟ انتهى السؤال الذي يصعب علي فهم أنه فعلا سؤال، وأقول:

لقد أعلنت أميركا بالفعل أنه كانت هناك مؤامرة لاغتيال سفير السعودية لدى أميركا، وأنها أمسكت بكل الضالعين في هذه القضية، وأنهم سيقدمون إلى المحاكمة، فمن أين عرفت السيدة السعيد أن الحكاية ليست إلا مسرحية هزلية؟ أنا أفهم أن يكون هذا التشخيص إيرانيا صرفا، غير أن الحوار نفسه لم يقدم دليلا واحدا على ذلك إلا إذا كانت مؤسسة أخبار اليوم كلفت مكتبها في واشنطن بالتحقيق في هذه الحكاية واتضح لها أنها مسرحية هزلية وليست مؤامرة من صنع الأجهزة الإيرانية.

وفي إجابة السيد نجاد عن هذا السؤال بالتحديد، ربما يجد رئيس مباحث قسم أي شرطة في مصر الأدلة الدامغة أن المؤامرة لا تنتمي لعالم المسرح الهزلي أو الجاد، بل هي واقعة جنائية عادية يحاول المتهم فيها الهروب من تبعاتها بالحداقة و(الهلضمة) في الكلام، استمع إلى جزء من إجابته.. «شعب إيران أبعد ما يكون عن التفكير في تنفيذ مثل هذه الجرائم» كلام صحيح وصادق كل الصدق، بالفعل الشعب الإيراني أبعد ما يكون عن التفكير في تنفيذ هذه الجرائم، فالشعب الإيراني وأي شعب آخر، لا يفكر في القتل، الأجهزة الأمنية هي التي تفعل ذلك، ولذلك كان المتوقع أن تكون إجابته عن هذا السؤال هي: لم يحدث أن تآمرت الأجهزة الإيرانية على قتل السفير السعودي لدى أميركا.

وتستمر مسيرة الهلضمة في الكلام ليكتشف القارئ بسهولة أن الإجابة تفتقر للصدق بأي درجة من الدرجات، لقد قفز بعيدا عن الأرض إلى أعلى مستنجدا بالسماء فيقول «نحن دوما في مثل هذه الظروف نعمل وفق منظومة ما قاله الله تبارك وتعالى في القرآن الكريم (إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة..) سورة الحجرات آية 6.. وهنا أسأل أليست الحكومة الأميركية فاسقة؟ الآية تنطبق عليها، هم أعداؤنا وأعداء السعوديين وأعداء جميع الشعوب».

ولا كلمة واحدة عن الحادث أو الواقعة أو القضية، قضية التآمر على قتل السفير السعودي في واشنطن. الله سبحانه وتعالى يطلب من الناس في مثل هذه القضايا أن يتبينوا، وخاصة عندما يكون صاحب النبأ فاسقا، وصاحب النبأ هنا هو الحكومة الأميركية كما يرى السيد نجاد، الواقع أن الحكومة الأميركية من المستحيل أن تعلن عن هذه القضية من غير أن «تتبين» وتستوثق من أن بين يديها قضية حقيقية لكي تجد أجهزتها ما تقوله في المحكمة.

والآن.. بعيدا عن هذا التحقيق الذي أضاع فيه السيد نجاد وقته محاولا إقناعنا بما يعجز حتى البلهاء عن الاقتناع به، وهو أن أميركا تحاول الإيقاع بين السعودية وإيران، في الوقت الذي يبدو فيه واضحا للجميع أن النظام في إيران هو الذي يوقع بين إيران وبقية دول العالم بسبب حرصه الشديد على اكتساب قوة ليس مؤهلا لها. غير أن هذا التحقيق يدفعني إلى أن أذكّر كل الجهات الحكومية في مصر التي يعمل رجالها ونساؤها فوق الأرض وتحتها بالحقائق التالية..

أميركا دولة صديقة وحليفة لمصر، المملكة السعودية دولة صديقة وحليفة لمصر، دول الخليج العربي هي دول صديقة وحليفة لمصر، وإذا كان هناك من يريد البحث عن دليل على كل ذلك فعليه أن يسأل وزير المالية، لا يجب بحال من الأحوال أن تتعرض علاقاتنا بكل هذه الدول إلى أي خدش، إن أي توتر بيننا وبين هذه الدول مهما كان بسيطا سيضر إضرارا بليغا بعلاقاتنا معهم في ظروف حياتية سيئة وتزداد سوءا.

لا أعرف أن دولة ما على وجه الأرض تناصب مصر العداء إلى الدرجة التي تشكل فيها خطرا استراتيجيا عليها، ولن تحدث حرب قادمة في الخليج، بل ستحدث ضربة واحدة من إسرائيل للمفاعل النووي الإيراني في حالة واحدة، هي أن تتمكن إيران من صنع قنبلة ذرية أو تقترب من ذلك. وليست هذه هي المرة الأولى، فقبل ذلك دمرت مفاعلا في سوريا ومر الأمر بسلام وهو نفس السلام الذي سيمر به الأمر بعد ضرب المفاعل في إيران، والسبب في ذلك أن النظام في إيران لن يغامر بالقيام بأي فعل من شأنه الإضرار بالحالة العامة للاقتصاد الإيراني التي يسيطر عليها الحرس الثوري، الوطن بالنسبة للأنظمة المتطرفة ليس هو الوطن الذي نعرفه، بل هو قدرتها على البقاء في حكمه مهما كانت خسائره، ولعل مثال سوريا ليس ببعيد. بالطبع ستصدر تصريحات عدة من دول وتجمعات سياسية وربما قرارات إدانة دولية لإسرائيل غير أن ذلك كله لن يغير من حقيقة الأمر الواقع. عندما تحول كل دول العالم القوية إلى أعداء لك فلا تتوقع أن يتعاطفوا معك عندما يضربك الآخرون.

لكل عصر عقله الذي يفكر به، وعقل هذا العصر اتخذ قرارا بالتخلص من الديكتاتوريات وهو ما يجعل بقاء النظام في إيران مسألة وقت. لا مستقبل لأي نظام على الأرض قرر أن يكون عدوا لكل سكانها أو معظمهم لأسباب أتحدى أي مخلوق خارج منظومة الطب النفسي أن يفهمها. لا نوافق على الديكتاتورية السياسية أو الدينية في مصر ولا في إيران ولا في أي مكان على الأرض، لا نوافق عليها ولا نوافق على الترويج لها، ومن يتصور أن خيرا ما سيعود عليه من الاقتراب من الديكتاتوريات تحت أي شعار فهو - في أفضل الأحوال - واهم.