علمانية بلا قضية

TT

جربنا كثيرا نقد الإسلاميين، وكثير من الكتاب كرس قلمه وحياته لنقد الإسلام السياسي، مع ذلك فالإسلاميون يفوزون في كل انتخابات جرت وتجري وستجري في منطقتنا، هذا ما حصل في إيران وتركيا والعراق والأراضي الفلسطينية والجزائر والسودان وتونس، وسيحصل في ليبيا ومصر. لا يملك العلمانيون في الغالب إلا صب جام غضبهم على شعوبنا غير الواعية التي تنخدع بخطاب الإسلاميين واستغلالهم للدين، لكن هؤلاء العلمانيين لا يسألون أنفسهم مثلا: أليست السياسة في كل مكان تقوم على استخدام الخطاب الذي يتناغم مع الجمهور لكسبهم؟ هل على «الأغلبية غير الواعية» أن تتبع أقلية تكتب لنفسها وتتجادل فيما بينها وتؤكد وجودها عبر العزلة لا عبر الارتباط بالمجتمع؟ لا يمكن لأي نقد سليم للإسلاميين في مجتمعاتنا أن يكتمل من دون القيام بنقد مماثل للعلمانيين، فهؤلاء غالبا ما ينسون أن جميع نظم الحكم الديكتاتورية والشمولية التي حكمت في منطقتنا كانت علمانية أيضا، وأنه لا يكفي أن تسمي نفسك علمانيا حتى تحرر نفسك من الشكوك والنقد، كما لم يكف نظام مبارك تسمية حزبه الحاكم «الديمقراطي» أو تسمية نظام بن علي لحزبه الحاكم «الدستوري»، أو حديث البعث عن الوحدة والحرية والاشتراكية، أو شعارات القذافي عن حكم الشعب للشعب!!

أولا: علينا أن ندرك أن الأحزاب الإسلامية ليست أحزابا دينية، وأن استخدام التعبير الأخير هو استخدام خاطئ درجنا عليه بحكم عدم فصلنا بين وظيفة الحزب الإسلامي ووظيفة المؤسسات الدينية. الأحزاب الإسلامية هي كيانات سياسية مثلها مثل كل أنواع الأحزاب الأخرى، سواء الاشتراكية أم القومية أم الليبرالية أم الشيوعية، كما أن الأحزاب المسيحية في أوروبا هي كيانات سياسية لا دينية، كما أن «شاس» والأحزاب الإسرائيلية المتشددة يهودية التوجه هي كيانات سياسية. يعني ذلك أن كل حزب يستهدف في نشاطه الوصول إلى السلطة هو حزب سياسي، وقد انتهت نظرية أن السياسة يجب أن تكون حكرا على اتجاه آيديولوجي واحد طالما قبلنا بالديمقراطية نظاما لتحديد من يحكم. الديمقراطية تقوم على تنظيم الصراع بين آيديولوجيات ورؤى مختلفة، وهي عندما تصبح نظاما لا تسمع فيه إلا رؤية واحدة وموقفا واحدا، فإنها تكف عن أن تكون ديمقراطية.

إن الحزب الإسلامي هو تعبير عن رؤية سياسية تفترض تعريفا مغايرا للهوية وللدولة ولعلاقتها بالمواطن، وإن هذا التعريف يتجسد بتنوعات كثيرة حسب طبيعة الحزب الإسلامي ومدى اعتداله أو حداثته أو تطرفه أو انغلاقه، بالضبط كما أن لدى الحزب الاشتراكي تعريفا مغايرا للهوية والدولة وعلاقتها بالمواطن، وأن هذا التعريف قد يتجسد بصور متباينة بحسب طبيعة اشتراكية هذا الحزب، وفي ما إذا كانت جذرية أو معتدلة؛ لذلك يصبح بإمكاننا الاستنتاج أن العلمانية لا يمكن أن تكون بمفردها موقفا سياسيا، أي أن يعبر حزب عن نفسه بمقولة واحدة ووحيدة هي العلمانية. لقد دافع الإسلامي أردوغان في القاهرة عن العلمانية بوصفها النظام الأفضل، وهو بهذا المعنى لا يعرف العلمانية بتعريف ضيق كذلك الذي يؤيده أنصار منع الإسلاميين من السياسة، بل هو يراها مطابقة للديمقراطية من حيث سماحها بالتعددية السياسية وبسلطة البرلمان كأعلى سلطة.

لذلك فإن الذين يعرفون أنفسهم كعلمانيين فقط، عليهم أن يقولوا لنا ما الذي يقصدونه بالعلمانية، فمقولة إن الأخيرة تعني فصل الدين عن السياسة مقولة غير كافية؛ لأنها هي بدورها تحتاج إلى شرح. فإذا كانت الأحزاب الإسلامية قد أقرت بأن السلطة العليا هي للبرلمان، وأن الانتخابات هي الوسيلة الوحيدة لمنح الشرعية، فإنها تكون قد أقرت ضمنا بفصل الدين عن السياسة. أما إذا كان المقصود بهذا الفصل هو منع التيارات الإسلامية من ممارسة السياسة، فإن ذلك يعني إعادة إنتاج الأسطوانة المشروخة القديمة ذاتها للأنظمة الاستبدادية في منطقتنا التي ضمنت استمراريتها عبر التهويل من خطر الإسلاميين.

البعض من العلمانيين، لا سيما في بلدان تعيش انقساما طائفيا، يعرفون العلمانية بأنها نقيض للطائفية، وهذا يعكس نقصا في فهمهم لمعنى وطبيعة الظاهرة الطائفية. الطائفية السياسية ليست هي الطائفية الدينية، بالضبط كما أن الأحزاب الإسلامية ليست أحزابًا دينية بل سياسية. تكفي مثلا مراجعة كتابات حنا بطاطو عن العراق وسوريا لندرك أن البعد الطائفي كان موجودا في السياسة بقوة في كلا البلدين في وقت لم تكن هنالك أحزاب إسلامية، بل كان المسرح السياسي تتقاسمه أحزاب تعتبر نفسها علمانية أيضا؛ لذلك يمكن للطائفية السياسية أن تترعرع بين العلمانيين كما تترعرع بين الإسلاميين، والسبب ببساطة أن العلمانية عندنا ليست ظاهرة اجتماعية ناضجة بجميع شروطها، بل هي حتى الآن فكرة هائمة غير محددة المعالم، تمارَس أحيانا كسلاح في أيدي نخبة سياسية أو مثقفة لا تستطيع أن تنجح في اللعبة الانتخابية. فقط في منطقتنا، يبدو بعض العلمانيين (وليس جميعهم بالطبع) ميالين للديكتاتورية أكثر من الإسلاميين؛ لأنها تغدو وسيلتهم الوحيدة للوصول إلى السلطة.

لقد حاولت نخبة علمانية عراقية أن تقود الاحتجاجات في بغداد على وقع الاحتجاجات العربية، لا سيما في مصر وتونس، إلا أنهم مع كل الزخم الإعلامي الذي يمتلكونه ومع حجم فشل النخبة السياسية الإسلامية الذي لا بد أن يخدم كعامل مساعد، فقد فشلوا في أن يخرجوا في جُمعهم أكثر من بضع مئات، علاوة على أن جزءا كبيرا من بين هؤلاء ينطلقون من منطلقات مغايرة لا علاقة لها بالعلمانية. لا يبدو أنهم حتى الآن حاولوا أو يحاولون فهم سر هذا الإخفاق، أو أن يقارنوا حجم احتجاجاتهم بالمظاهرات التي يدعو إليها التيار الصدري مثلا والتي تجمع عشرات الألوف، وهم لا يدركون أن قضيتهم زائفة إلى حد كبير؛ لأنها قضية النخبة أكثر من كونها قضية الشارع. في العراق كانت أولى المظاهرات عفوية ومهمة قام بها أناس ساخطون ضد انقطاع التيار الكهربائي، لكن تلك المظاهرات سرعان ما فقدت قيمتها حينما أصبحت مشروعا آيديولوجيا بلا غاية واضحة ولا مشروع بديل وانصرف عنها الناس لشعورهم بفقدان الغاية من ورائها.

النتيجة أننا خسرنا مجددا القدرة على إنتاج حتى رؤية معارضة ذات مشروع بديل، لإصرارنا على خوض صراع غير حقيقي على أساس ثنائية علماني – إسلامي، وهي ثنائية تعني النخب السياسية والمثقفة بأكثر مما تعني الناس العاديين.