لغتان أو أكثر!

TT

هذه مشكلة خطيرة قلما فكرنا فيها أو سعينا لمعالجتها. أقصد بها البون الكبير بين اللغة الدارجة، لغة الكلام، واللغة الفصحى، لغة الكتب. وهي مسألة مهمة الآن ونحن في الخريف العربي ونتكلم عن الديمقراطية ومشاركة الشعب في الحكم. أكثرية الشعب لا يستعمل اللغة الفصحى وقلما يفهمها. وقد جر ذلك إلى كثير من المقالب والمفارقات المضحكة والمؤسفة أحيانا.

من ذلك أن حزب الوطن الديمقراطي قرر في عهد عبد الكريم قاسم تجميد عضويته في الجبهة الوطنية التي انتظمت سائر الأحزاب. عارض ذلك الحزب الشيوعي فخرجوا في مظاهرات تهتف وتحمل شعارات تقول: «جبهة جبهة وطنية، لا تجميد ولا رجعية». نشط الرفاق في الأرياف لترويج الشعار بين بسطاء الناس فخرج القوم في مظاهرات دون أن يفهموا شعار الشيوعيين فراحوا يهتفون: «لا تجنيد ولا جندية»!

يقول أصحاب التحليل النفسي إن مثل هذه الهفوات تنم في الواقع عن حقيقة ما يدور في ضمير الإنسان ويهمه. فكل ما كان يطمح إليه الفلاحون والكسبة في العراق، بل وكل العالم العربي، كان الخلاص من الجندية والتجنيد الإلزامي.

وهناك في تونس، مهد «الربيع العربي»، كان الرئيس الحبيب بورقيبة قد تزوج مؤخرا بالسيدة وسيلة. وراح يطوف المدن والقرى التونسية يبشر بالنهوض والإصلاح. وقف أمام الجماهير الفلاحية وراح يخطب: «سنحارب الجهل والتخلف بكل وسيلة». صفق الحاضرون له بحماس وراحوا يهتفون: «تعيش وسيلة.. تعيش وسيلة»!

وطالما أتيت على ذكر الحبيب بورقيبة، فإن هذه الكلمة (الحبيب) أثارت مثل ذلك من سوء الفهم عندما راح الخطيب في الجامع في إحدى المدن الأردنية يعظ جمهور المصلين ويحذرهم من نزوات الشباب والشابات فيقول: «ترون ابنتكم تعود من المدرسة وتأخذ ورقة وقلما وتنشغل في الكتابة. لمن تكتب؟ فكروا جيدا، لمن تكتب؟ وماذا تكتب؟ إنها مشغولة تكتب للحبيب». فصاح جمهور المصلين: «اللهم صلّ على الحبيب محمد»!

وأتذكر في أيام الحرب العالمية الثانية كان هناك بقال في محلة الكرنتينة في بغداد عندما كان كل العراقيين يتعاطفون مع النازية. كان هذا البقال يستمع خلسة إلى «راديو أنقرة» الذي كان يبث البلاغات العسكرية الألمانية أيضا. كنت أشتري منه بعض الحلويات فكان يبادرني بالقول: «ابني خالد، سمعت؟! عمنا هتلر أباد الإنجليز في طبرق عن بكارة أبيهم». كان يقصد طبعا «بكرة أبيهم»، ولكن هذا ما لم يشغل باله. كان عنده سبع بنات شابات غير متزوجات. الحفاظ على بكارتهن مشكلة عسيرة كان يواجهها في الكرنتينة، تلك المحلة الغارقة بالفسق والإباحية. هذا ما كان يشغل باله وليس ما كان يجري من قتال في طبرق.

وكم استأنس العراقيون بمقالب الرئيس سلام عارف عندما كان يطوف القرى ويخطب في الناس ويقول ما لا يعرفه لمن لا يفهمه! ولا أستطيع ذكره هنا لبذاءته. ولكنه خطب يوما فقال: «وسنتحمل كل هذه المؤامرات والصدمات»، فقاطعه أحدهم: «اصدمهم سيدي والعن أبوهم»! فرد عليه: «اسكت!.. خليني شوية آكل خـ.. »!