بداية لشعب.. ونهاية لمشروع

TT

«إن ما يصيب سوريا من شرّ لن يبقى في حدودها، وهذا الشر إذا أصيبت به سوريا سيكون شرّا مستطيرا على كل دول الجوار ولن تكون أي دولة عربية خليجية أو غير خليجية بمنأى عن تأثير هذا الشر».

(يوسف أحمد - مندوب سوريا في جامعة الدول العربية)

عقود من الابتزاز من كل الأنواع والألوان بلغت يوم أول من أمس مرحلة التهديد العلني. وصدق أحد «شبيحة» الإعلام السوري، بعد قرارات وزراء الخارجية العرب، عندما تحدث عن «التعرّي» في المواقف في سياق اعتباره أن «التآمر» العربي على نظامه الأبدي انكشف عبر تلك القرارات.

لا حاجة للتكلّم عن عدد الدول التي سارت في «المؤامرة» المزعومة على نظام دمشق وهو الذي قام منذ اللحظة الأولى في حياته على التآمر.

التآمر، أولا، على رفاق الحزب ورفاق السلاح ورفاق الطريق في «مكافحة الإمبريالية»... ولكن لخدمة «الإمبريالية» وطعن المقاومة الفلسطينية في الظهر خريف عام 1970.

ثم التآمر على الجيران ابتداءً بلبنان، الأضعف والأقل حيلة، حيث فعل النظام كل ما بوسعه لصبّ الزيت على نار محنة لبنان الداخلية التي سرعان ما تحوّلت إلى حرب أهلية مفتوحة، ومن ثم تطوّرت إلى ساحة تصفية حسابات إقليمية، فدولة تحكمها «دويلة» طائفية، ... وانتهاءً بالعراق حيث أسهم بجعل جنوبه محمية إيرانية وشماله مشروعا انفصاليا.

النظام «الممانع» و«المناضل ضد الإمبريالية» يتناسى، ويريد من الشارع السوري الذي دجّنه لفترة طويلة أن ينسى، أين كان الموقع السياسي لقائده «الخالد» في أواخر 1970، وبتواطؤ أي جهات إقليمية ودولية دخلت قواته لبنان عام 1976، ومع جيوش أي تحالف دولي شاركت قواته على الجبهة العراقية الكويتية عام 1991، وكل هذا من دون أن نشير إلى الصمت المطبق على الغارات الإسرائيلية على عين الصاحب وموقع الكبر قرب دير الزور، ولا «المأساة – الملهاة» على «شريط» الجولان الحدودي منذ 1973.

الكلام عن الثورة والممانعة والمقاومة يعرف زيفه جيدا كل مَن رصد تاريخ نظام بنى استقراره – الذي وصفه أحد كبار المفكّرين السوريين بـ«استقرار القبور» – على بؤس جيرانه وابتزاز أشقائه لأكثر من أربعة عقود.

أصوات ثلاث دول فقط ارتفعت السبت الماضي في جامعة الدول العربية ضد سعي العرب لمنع النظام السوري من مواصلة قتل شعبه.

الصوت الأول كان صوت النظام نفسه.. ولا غرابة في ذلك. والصوت الثاني كان صوت لبنان المحتل.. والخاضع للهيمنة الإقليمية التي يشكل النظام السوري التابع الذيلي فيها. والصوت الثالث كان - حتما - صوت نظام علي عبد الله صالح اليمني.. النسخة طبق الأصل للنظام السوري في شبه الجزيرة العربية. أما الامتناع عن التصويت فكان للعراق، الذي صدح ناطقه الحكومي بالأمس منتقدا القرار بحجة أنه يفتح الطريق أمام «التدخل الأجنبي»(!). وهنا يبدو أن السيد علي الدباغ نسي هو الآخر بقوة مَن يتكلّم اليوم، ولمَن تدين سلطة بلاده بوجودها أصلا!

ثمة مثل شعبي بليغ في بلاد الشام يقول «لا يحوِج إلى المرّ إلا ما هو أمرّ منه». والنظام السوري، لا يستطيع مهما فعل، ومهما قال، أن يهرب من مسؤوليته المباشرة في استجلاب أي تدخل خارجي.. لا قدّر الله.

بعد آلاف القتلى، وعشرات الألوف من السجناء والمشرّدين والمهجّرين، وتأجيج العصبيّات الفئوية والمذهبية، وتدمير المدن والبلدات الآمنة على رؤوس أهلها طوال ثمانية أشهر... لا يحق للنظام في دمشق القول إن العرب تأخروا في منحه فرصة كافية لإنقاذ نفسه.

لقد كتبت غير مرّة أن المرآة الأكثر كشفا لسلوكيات النظام السوري هي لبنان، ولا سيما بعد تداعي سقف لبنان وجدرانه منذ 1975.

لقد تحكّم حكام دمشق بلبنان طيلة ثلاثة عقود، أي نحو ثلاثة أرباع الفترة التي تحكّموا فيها بسوريا نفسها. ولكن إذا كانت «ثقافة الصمت الاضطراري» هي لسان حال المشهد السياسي السوري، كانت «الشفافية الفوضوية» السمة المميّزة للبنان، باستثناء فترات قليلة.. آخرها فترة سيطرة ما عرف بـ«النظام الأمني السوري اللبناني» - والإيراني أيضا - على الحياة السياسة في لبنان.

اليوم لبنان محكوم من خارج حدوده، قراره السياسي والعسكري والأمني خارج حدوده. وكلام السيد حسن نصر الله في «يوم الشهيد» واضح جدا، فالأرض التي تخضع له - وهي عمليا كل التراب اللبناني - جزء لا يتجزأ من مشروع إقليمي، وصفه يوسف الأحمد المندوب السوري في الجامعة العربية، بالأمس بـ«خط» إقليمي. غير أن الإشكالية مع هذا المشروع، أو «الخط»، على الرغم من «كلامه» الرائع على صعيد العداء لإسرائيل، والنضال ضد الهيمنة الأميركية المعادية للفلسطينيين والعرب، هي أنه يعمل في عموم المنطقة العربية، بقصد أو من دون قصد، على زرع الفتنة الطائفية وخلق مخاوف وهواجس وعداوات عميقة.. المستفيد الأكبر منها إسرائيل وواشنطن بالذات.

لا أدري كم كانت هناك من «مبالغات» يزعمها النظام السوري في تصوير الفضائيّات العربية الوضع الأمني في المدن والبلدات السورية المقموعة، لكن كثيرين مثلي يتساءلون عن سبب إصرار النظام على التعتيم الإعلامي المتعمّد، ناهيك عن ملاحقته - حتى عبر الحدود - معارضي النظام ومنتقديه واختطافهم وإخفائهم.

ثم إنني لست واثقا تماما من نسبة مؤيدي النظام بالمقارنة مع نسبة مناوئيه. لكن المسؤولية، في أي حال، لا بد أن تقع على نظام فيه - بفضل المادة الثامنة من الدستور السوري - حزب «قائد» أكبر من آليات الديمقراطية الانتخابية. حزب متسلّط يحرّم حتى على «حلفائه» المزعومين الدعاية والتنسيب الحزبيين في الجيش وقوى الأمن ومرافق حيوية تشكل عصب البلاد الفعلي، ويفرض عضلاته على قطاع الإعلام، ويمارس «توتاليتاريته» التنظيمية والتدجينية.. حتى في المدارس الابتدائية.

وطبعا، أنا لا أزعم أن فكرة «الإصلاح» لم تخطر البتة في ذهن الرئيس بشار الأسد، مع أنني أشك كثيرا بصحة الكلام عن تشوّقه للعودة إلى مهنة الطب. لكن الرئيس الأسد (الابن) جاء إلى السلطة أصلا في خطوة توريثية مناقضة كليا لأي مفهوم إصلاحي. ولقد أتيحت له على امتداد 11 سنة، وهي فترة تزيد على فترتين رئاسيتين دستوريتين في أميركا - هما الحد الأقصى لحكم أي رئيس منذ 1945 - عدة فرص لوضع وعوده «الإصلاحية» موضع التنفيذ.. لكنه لم يفعل. بل حتى عندما اعترف بالخطأ، لم يظهر أي بوادر عملية لإصلاحه. فبعد جريمة اغتيال رفيق الحريري ورفاقه، التي فجّرت «ثورة الأرز»، أولى براعم «الربيع العربي»، وأدت إلى سحب القوات العسكرية السورية من لبنان.. أقرّ الرئيس السوري بـ«ارتكاب أخطاء»، غير أنه «عاقب» رستم غزالي، رئيس جهاز الأمن والاستطلاع (الاستخبارات) السوري في لبنان، على تلك الأخطاء بتعيينه في منصب مُماثل لكن في ريف دمشق.. على الحدود مع لبنان!

وبناءً عليه، قلة من السذّج صدّقت وجود الرغبة في «الإصلاح» الذي تغنّت به تظاهرات التأييد التي جيّش لها النظام ردّا على الانتفاضة الشعبية، والتي بخلاف تظاهرات الانتفاضة أحجم «المندسّون» و«الإرهابيون» و«المخربون» عن مهاجمتها...

ما حصل السبت الماضي حدث مفصلي في تاريخ المنطقة العربية. إنه بداية لشعب.. والأرجح، نهاية لمشروع.