الأديب الذي عاش يحمل اسم الطبيب!

TT

في 11 ديسمبر (كانون الأول) المقبل، سوف يكون علينا أن نحتفل بمرور مائة عام على اللحظة التي جاء فيها نجيب محفوظ إلى هذه الدنيا، وسوف يكون علينا وقتها أن نتدبر الدروس التي عاش أديب نوبل العظيم، ثم مات، وهو يقدمها لنا، يوما بعد يوم، ويدعونا إلى أن نتأملها، ونستوعبها، ثم نتمثلها!

وكما قيل قديما، ولا يزال يقال، من أن أحداث الأيام المفاجئة يمكن أن تظلم أشخاصا كبارا، من دون ذنب منهم، فإن هذا ينطبق تماما على ذكرى ميلاد محفوظ، لأن القاهرة كانت تخطط، منذ العام الماضي، لأن يكون عام 2011 هو عام نجيب محفوظ بامتياز، وكان من المفترض، لو مضت الأيام في سياقها الهادئ التقليدي، أن يمتلئ هذا العام، من أوله إلى آخره، باحتفالات ومهرجانات وكرنفالات حول حياة نجيب محفوظ، وأعماله وأفكاره.. لولا أن جاءت ثورة 25 يناير (كانون الثاني)، فقلبت الدنيا في البلد رأسا على عقب، ونسي الناس معها ليس فقط ذكرى ميلاد أديب نوبل، وإنما نسوا أيضا - وربما تكون هذه مفارقة مدهشة - ذكرى ثورة يوليو (تموز) 1952 ولم يعد أحد يذكرها ولا يتذكرها، وأصبح الحال أنه إذا قال أحد عبارة «قبل الثورة» فإن الذي يقفز إلى الذهن على الفور إنما هو ثورة 25 يناير 2011 وليس ثورة الضباط الأحرار قبلها بـ59 عاما!.. مع أننا عشنا هذه الـ59 عاما وليس عندنا إلا ثورة واحدة، هي ثورة 52، وكنا نؤرخ لأيامنا بما قبلها وحدها، وبما بعدها وحدها، فإذا بها في لحظة تدخل إلى عالم النسيان، وتحل محلها ثورة جديدة، فاجأتنا وأرغمتنا على أن نؤرخ لأنفسنا بها، وليس بغيرها!

على كل حال.. إذا كانت ثورة يناير 2011 قد فعلت هذا بذكرى ميلاد نجيب محفوظ، فإنها، من ناحيتي، لم تستطع أن تنسيني واقعة محددة، كانت ولا تزال تجعل لحظة مولده حاضرة أمام عيني على الدوام.

كنت، قبل سبع سنوات من الآن، قد ذهبت مع آخرين إلى مقابر الإخوة الأقباط في حي العباسية بالقاهرة، وكنا قد ذهبنا معا لتشييع جنازة صديق قبطي كبير، هناك، وبينما كنا نسعى وراء جثمانه، بين المقابر، وقعت عيناي، وأنا أسعى وراء الجثمان، على مقبرة مهيبة، نقشوا على بابها العتيق اسم صاحبها، وكان الاسم هكذا: الدكتور نجيب محفوظ.

طبعا، كنت أعرف قبلها أن رجلا بهذا الاسم عاش بيننا في يوم من الأيام، وأنه كان طبيبا عظيما، وأنه كانت له إنجازات في مجال عمله وتخصصه، وأن اهتماماته وهواياته كانت قد خرجت به إلى ما يتجاوز نطاق التخصص الدقيق، بحيث صار، في أيامه، اسما بارزا يشار إليه في كل وقت.

ولكن.. ما لم أكن أعرفه عنه أنه كان قبطيا.. فقد نشأنا في ظروف لم يكن أحد بيننا فيها معنيا بالسؤال عن ديانة الآخر، ولم تكن هذه المسألة تشغل أي واحد فينا، إلى وقت قريب.

والمهم، أنني حين عدت من تشييع جنازة صديقي القبطي رحت أفتش في كل ما يخص الدكتور نجيب محفوظ، وكان أهم شيء استوقف نظري في سيرته، كما أنه لا بد أن يكون قد استوقف آخرين حين عرفوا به للمرة الأولى، أنه كان متخصصا، كطبيب، في مجال النساء والولادة، وأنه، بيديه، هو الذي استولد أم نجيب محفوظ الأديب، وأن أباه قد صمم في حينها على أن يحمل مولوده الجديد اسم الطبيب الكبير!

قد يرد واحد ويقول: وماذا في هذا.. إنها واقعة عادية، ومن المؤكد أنها حدثت من قبل، وكان من المتوقع بالتالي أن تحدث مع نجيب محفوظ، ويمكن أن تحدث وتتكرر مع مواليد آخرين من بعده؟.. وسوف أقول إن هذا صحيح، وسوف أقول إنه صحيح لو أخذناه بمقاييس تلك الأيام، من عام 1911 عندما هلّ نجيب محفوظ على دنيانا.. ولكن.. عندما نتطلع إلى الحكاية، بمقاييس أيامنا التي نعيشها، فسوف نكتشف أن ما حدث يظل نادرة من النوادر، وأن والد نجيب محفوظ الأديب يستحق أن يقام له تمثال، وكذلك أمه، لا لشيء إلا لأنهما قررا، من دون تردد، أن يطلقا على مولودهما اسم طبيب قبطي، من دون أن يفكرا، ولو للحظة واحدة، في أن المولود مسلم الديانة، بينما الطبيب مسيحي الديانة.. لا.. لم يأت شيء من هذا - في ما يبدو - في ذهن أي منهما، وعاش نجيب محفوظ الأديب حياته المديدة المليئة بالفتوحات، وهو يحمل اسم الطبيب القبطي العظيم.

لقد وصلنا، في أيامنا التي نحياها، إلى وقت أصبح فيه آباء يترددون في الذهاب إلى طبيب قبطي إذا أصابهم أو أصاب ذويهم مرض، لا لشيء إلا لأنهم مسلمون، وهو مسيحي، مع أن هذا يبقى أمرا لا علاقة له بالموضوع، ومع أن ديانة الشخص هي آخر شيء يمكن أن نستعلم عنه في مثل هذه الظروف، وفي غيرها، وإذا شئنا الدقة في الكلام فإن ديانة البني آدم يجب ألا تكون موضع كلام أو نقاش في حياتنا اليومية.. إنه إنسان.. وهذا يكفي.. ثم إنه مصري.. وهذا يكفي وزيادة.. ولا علاقة لي، ولا لغيري، بديانته، فهي مسألة تخصه، وسوف يسأله عنها ربه، ولا أحد سواه.

كم كان والد نجيب محفوظ عظيما، وكم كانت أمه سيدة عظيمة أيضا، لأنهما كان في إمكانهما أن يطلقا على مولودهما أي اسم، بخلاف اسم الطبيب نجيب محفوظ، ولم يكن أحد سوف يلومهما، أو يسألهما، أو يسائلهما.. لكنهما، لأمر ما، وجدا أن الاسم يمكن أن يحمله المسلم والقبطي معا، من دون أي حرج، لأنهما لم يكونا يتوقعان أن يأتي يوم يسأل فيه الشخص شخصا آخر عن اسمه، فلا يشير الاسم للوهلة الأولى إلى حقيقة ديانة صاحبه، فيظل الشخص الأول يتحرى، ويتقصى، ويستزيد من مفردات اسم الشخص الثاني، حتى يطمئن إلى حقيقة ديانته بالضبط!

لم يسأل والد نجيب محفوظ عن ديانة الطبيب حين راح يستقدمه ليساعد زوجته في إخراج مولودها إلى دنياه.. ولم يسأل الوالد أيضا عن ديانة الطبيب عندما قرر أن يأخذ اسمه ويخلعه على مولوده الجديد مدى الحياة.. لم يسأل عن هذا كله، ولم يكن هذا كله يعنيه، ولا كان ينشغل به، وظلت الحكاية، في ما بعد، مروية، وفي لحظات كثيرة كنا نستدعيها لندلل بها على أن الانشغال بديانة الآخر، في الوطن الواحد، وحتى خارجه، عيب ومسيء وينال من قدر الإنسان.

لم يشأ والد نجيب محفوظ أن يظل يتكلم عن وحدتنا الوطنية، في مصر، كما نفعل الآن، حتى كاد الكلام في الموضوع يفقد معناه.. وإنما شاء الرجل أن «يفعل» ما يؤكد يقينه في هذا الاتجاه.. نجح والد نجيب محفوظ في أن يختزل الملف كله، في لحظة، ثم نجح في أن يلقيه وراء ظهره، وينساه.. في حين ظللنا نحن، من بعده، مائة سنة، نتكلم في الملف نفسه ولا نصل فيه إلى شيء حقيقي!