المشير والرئيس والغموض المدمر

TT

سيناريو مغادرة الأسرة كشرط للتنحي، كانت هي الرواية الثانية التي تناولتها في مقال الأمس، واليوم نكمل بقية الروايات القاهرية عما حدث بين المشير والرئيس، وأثرها على الشرعية وشعار «الشعب والجيش إيد واحدة»، ومستقبل الاستقرار في مصر. في سيناريو مغادرة الأسرة الحاكمة المصرية الذي تحدثت عنه بالأمس، قيل إن سليمان كان في قصر الاتحادية وكان جمال وعلاء يقفان في الشارع باللباس «الكاجوال» أمام القصر، واقترب علاء من سليمان وقال له «حنعمل إيه يا أونكل» فرد سليمان «انت واخوك تاخدوا الوالدة وتحصلوا بابا في شرم». ولأول مرة يستخدم سليمان لفظ «الوالدة» في إشارة إلى سوزان مبارك، والتي كانت تلقب بالهانم، وكان الرئيس يلقب بالباشا الكبير. ولم يقل سليمان لعلاء لا الهانم ولا الباشا الكبير. ولكن السيدة مبارك التي كانت متشبثة بالحكم حتى آخر لحظة رفضت ترك القصر وتذرعت بحجج كثيرة. ثم ذهب أحد الضباط إليها واقتادها إلى الهليكوبتر بحزم. ومع ذلك لم تيأس وعادت إلى القصر مرة أخرى، بعد أن ادعت أنها نسيت شيئا، وتأخرت الطائرة لمدة ساعة. وكان المشير على نار، وكان كل مرة يتصل المشير ليطمئن على إقلاع الطائرة وإذاعة البيان، وتأخر الوقت وقلق المشير، ولكن في النهاية أقلعت الطائرة إلى شرم وأذيع البيان. وفي هذا السيناريو يبدو أن المشير هو الذي أجبر الرئيس على التنحي.

في رواية أخرى قيل إن المشير تم إعفاؤه من منصبه؛ صيغة تقول إن الذي قرر إعفاء المشير هو جمال مبارك في الفترة من 6 فبراير (شباط) إلى 10 فبراير، وكتب خطاب عزل المشير وأرسل الخطاب إلى التلفزيون وأن التلفزيون رفض إذاعة الخبر وسرب المعلومة للجيش مما أدى إلى السيناريو الذي ذكرته للتو، والذي أجبر فيه المشير الرئيس على التنحي. رغم أن أطرافا مهمة في التلفزيون نفت هذه الحادثة. وفي رواية أخرى أن الرئيس هو الذي طلب من المشير مغادرة منصبه، وذلك في الأيام الأولى للثورة، ولم ينفذ المشير وعاد إلى مقر القيادة غاضبا وقرر الاعتصام هناك وتبعته قيادات الجيش مما اضطر مبارك إلى الذهاب إلى قيادة الجيش لمصالحته، وهذه هي المرة الوحيدة التي رأينا فيها مبارك وسليمان مع قيادة الجيش في غرفة العمليات.

رواية أخرى، قالت إن بعد عودة سامي عنان من واشنطن، قال له الأميركان بالحرف الواحد: «نحن لا نريد الجيش أن يضرب المتظاهرين ولا نقبل أن يستخدم سلاحنا وذخيرتنا في قتل الأبرياء، على الأقل لا نريد لسلاحنا أن يستخدم في وضح النهار وأمام الكاميرات العالمية الموجودة في مصر الآن». وكانت الرسالة المواربة من الأميركان هي أنه لو استخدمتم السلاح بالليل فلن نحاسبكم. ولم يستخدم الجيش السلاح بالليل، رغم أن المخابرات العسكرية وحسب الشهود أخذت الكثيرين من نشطاء الميدان واستجوبتهم، وكذلك المخابرات العامة وأمن الدولة، ولكن ليس هذا هو المهم في الرواية، فالمهم هو أن مبارك كان مصرا على تصفية الميدان، وطلب من سامي عنان أن يتخذ كل الإجراءات لتصفية الميدان. وحسب المصدر فإن ذلك هو اليوم الذي طارت فيه الطائرات الحربية والتي اخترقت حاجز الصوت فوق الميدان. بالطبع قيل فيما بعد إن الطيران لم يكن تهديدا للثوار بل كان تحية لهم، وإنه كان بمثابة إعلان بأن لحظة النصر قد اقتربت، ولكن كل هذا كان ضمن تفسيرات ما بعد التنحي، فلم يكن هناك فرد في الميدان يرى في اختراق حاجز الصوت تحية، ولو كانت هناك رسالة بقرب النصر، فبكل تأكيد لم تصل الميدان. ومع ذلك - وحسب الراوي - ترك سامي عنان مكتب الرئيس غاضبا وأغلق الباب خلفه بقوة كدليل رفض، بعد أن قال للرئيس إن الجيش لن يدخل في مواجهة مع الشعب، وعاد إلى قيادة الأركان وانضم إليه القادة الآخرون وقرروا عزل الرئيس.

رواية أخيرة، تقول إن السيدة سوزان مبارك اتصلت بالمشير وطلبت منه أن يتحرك «وعيب على الضباط أن يتنكروا للرئيس في هذه اللحظة، دا لحم كتافكم من خيره». وتطاولت السيدة الأولى على الجيش والمشير، وقرر المشير أن يتشارك هذه المكالمة بعد تسجيلها مع بقية أعضاء المجلس العسكري الذين أحسوا بالإهانة من لغة المكالمة وغضبوا من السيدة مبارك، وقرروا عزل مبارك بعد تلك المكالمة. وهذه رواية ضعيفة، ولكنها ضمن «حواديت» من يدعون القرب من النظام، وضمن «حواديت» القاهرة.

المهم في هذا كله هو أنه لا توجد رواية حاسمة تقول إن الجيش قد أنقذ الثورة، إلا في حالة المواجهة بين عنان ومبارك وطلب المشير من عمر سليمان أن يقول لصاحبه بأن يترك الحكم. هذا إضافة إلى زيارة المشير للميدان والتي رآها البعض إشارة إلى أنه الرجل الذي يدير الأمور وأن مبارك لم يعد رئيسا. مهم أيضا في كل هذا أن الغموض الحادث حول ما جرى حتى يوم التنحي ودور الجيش فيه يضيف إلى تأزم الأمور في مصر ولا يسهم في حلها، لأنه لا توجد رواية واحدة متماسكة ومن طرف عسكري، تثبت أن الجيش بالفعل حمى الثورة، ولكن خلاصة الروايات توحي بأن الشعب والثورة هما من حمى الجيش. وحتى ينجلي الغموض عما حدث في الفترة من 28 يناير (كانون الثاني) حتى التنحي يوم 11 فبراير، تظل شرعية المجلس العسكري شرعية غامضة ومحل أخذ ورد. بهذا النوع من الشرعية المتفرقة، لن يكون للمجلس كتلة حرجة أو كافية من الشعب المصري تقف إلى جانبه في رؤيته للدولة المصرية الجديدة. ولهذا تبقى مصر حتى اللحظة في أزمة المشير والرئيس والغموض المدمر.