لبنان: بين الانبعاث العمراني والقلق المصيري

TT

أمضيت شهرا في لبنان بعد غياب 3 سنوات عنه. المشهد العمراني الحديث في وسط بيروت والواجهة البحرية منها مذهل. شبه ناطحات سحاب لا يقل سعر الشقة فيها عن المليون أو المليوني دولار. محال تجارية تحمل أسماء أشهر دور الأزياء في العالم فتحت أبوابها في قلب العاصمة. فنادق ومطاعم في كل مكان وسيارات تغطي الشوارع والأرصفة، وورش عمارات و«مولات» عند كل منعطف.

تتأمل في هذه النهضة العمرانية في لبنان متسائلا: كيف استطاع اللبنانيون الانبعاث من رماد الحرب الأهلية والوصاية السورية والاحتلال والعدوان الإسرائيلي، وغطوا الجبال والسواحل بالأبنية وكل مظاهر الحياة؟ ولا تجد جوابا شافيا عن تساؤلك.

تثير أعصابك «عجقة السير» طوال أيام الأسبوع، ليلا ونهارا. ويلفتك شبه خلو بيروت من السيارات والناس يوم الأحد، عندما يذهب أبناء الجنوب والبقاع والمناطق الأخرى إلى قراهم وبلداتهم. عدد هؤلاء العاملين في بيروت والساكنين فيها أو في ضواحيها طوال أيام الأسبوع – دون التخلي عن جذورهم ومنازلهم الريفية - يفوق المليون إنسان. وتلك ظاهرة اقتصادية واجتماعية بل وسياسية جديدة في الحياة اللبنانية العامة، ولا ينفرد لبنان بها.

في المطاعم والمقاهي والمصارف والمحال التجارية والدوائر الرسمية تسير الحياة بشكل طبيعي وأجواء هادئة بل وودية. وتسمع السياح العرب والأجانب يشيدون بحسن استقبال اللبنانيين ولطف معاملتهم. ويشكو اللبنانيون من تراوح نسبة إقبال السياح تبعا لتقلبات الأجواء السياسية الداخلية والإقليمية. ويتفق الجميع على القول إن أجواء التوتر التي تعكسها وسائل الإعلام ويغذيها السياسيون بتصريحاتهم لا تعبر عن حقيقة أماني الشعب وتطلعات أبنائه. بل هي من صنع الأحزاب والزعماء السياسيين ووسائل الإعلام التابعة لهم في لبنان. فهم وهي من يتنافس على إشعال الحرائق السياسية والتدفؤ على دخانها. وتشعر أن هناك لبنانين منفصلين: لبنان المواطنين والأعمال والتجارة والعلم والمناخ الجميل وهناءة العيش. ولبنان آخر هو لبنان السياسة والسياسيين المنغمسين في النزاعات الإقليمية والدولية، لبنان الطائفية والمذهبية والعقائديات السياسية، لبنان العمالة والتآمر والاغتيالات، يحركه ويستفيد منه بضعة آلاف من السياسيين وأعوانهم وأنصارهم.

وتسأل الناس حولك عن رأيهم في «الحالة»، فتسمع جوابا واحدا: إنها الطائفية والمذهبية السياسية الملعونة. إنها أصل البلاء. وسياسيونا أسرى لها ويعيشون منها. إنها تحول دون قيام الدولة الحديثة ودون تحول الإنسان اللبناني إلى مواطن. بل إنها هي التي دفعت بالسياسيين اللبنانيين إلى الارتباط بالقوى الخارجية وحولت لبنان إلى ساحة تصفية حسابات بينها.

إن أمنية معظم اللبنانيين هي قيام دولة مدنية ديمقراطية حديثة وعادلة تحقق لهم الأمن والاستقرار وتوفر لهم الحرية والكرامة وتعيد للبنان دوره المتألق السابق. لكن هذه الأمنية الشاملة والجامعة ليست قادرة على إيصال نائب واحد إلى مجلس النواب يعبر عنها. فقوانين الانتخابات إنما فُصلت وتفصَّل على قياس أجسام الزعامات التقليدية الطائفية منها والمناطقية. وإنه لمستبعد جدا أن يسن المجلس النيابي الحالي قانونا يغير طريقة التمثيل النيابي الراهن للطوائف والأحزاب الطائفية.

لقد خُيل للبنانيين بعد انسحاب إسرائيل من الجنوب عام 2000، وتقلص الوصاية السورية عام 2005، وفشل العدوان الإسرائيلي عام 2006، أن الصفحات السياسية السوداء قد طويت وأن صفحات جديدة قد فتحت، لا سيما بعد أن تألفت حكومة «اتحاد وطني»، ضمت ممثلين عن «14 آذار» و«8 آذار». إلا أن هذا الحلم الجديد تبدد سريعا وعاد التوتر يستبد بالحياة السياسية، وتهم العمالة والخيانة والكيدية، إلى أشد ما كان عليه. بل بات أصغر حدث يشكل موضوعا لأزمة وسببا لتوتر سياسي.

ثم جاء «الربيع العربي» - وفي سوريا خاصة - ليضيف موضوعا خلافيا جديدا على المواضيع الخلافية القديمة والمستديمة. وانقسم السياسيون بين محبذ للثورة ومتحفظ ومتخوف من انعكاساتها الحالية والمستقبلية على لبنان. وعلى الأقليات المسيحية وغيرها من الأقليات في المنطقة. الجميع في لبنان ينتظرون قلقين مآل الأحداث في سوريا ويراهنون في سرهم على انتصار هذا الفريق أو الآخر. وإن كانوا يعتقدون أن استقرار الحكم في سوريا وارتكازه على الديمقراطية والتعددية يساعدان كثيرا على تطبيع وتحسين العلاقات بين البلدين والشعبين. لكنهم في الوقت نفسه يشعرون بأن هناك لاعبا إقليميا آخر بات يؤثر أكثر من غيره من اللاعبين على مصيرهم، ألا وهو إيران. ويدركون أن «أبواب الجنة» لن تفتح بوجه لبنان قبل أن تصفي طهران حساباتها مع واشنطن. والبعض يقول: قبل أن يقوم السلام بين العرب وإسرائيل.