لماذا لا تنعقد قمة عربية؟

TT

مر العرب بمرحلة كانت فيها فكرة «القمة العربية» فكرة أساسية حاكمة وموجهة في السياسة. الآن يعيش العرب حالة انفرادية خطرة، متروكا فيها لكل دولة أن تفكر بمفردها. وأسفر هذا الوضع عن نتيجة مؤسفة، وهي أنه لم يعد هناك تفكير عربي استراتيجي، لم يعد هناك تفكير عربي جماعي، لم تعد هناك حتى سياسة تضامن عربي.

فكرة القمة العربية التي غابت، وغاب معها بالتالي موضوع التضامن، أدت إلى تراجع التفكير العربي في الخطر الإسرائيلي، سواء في الخطر لإسرائيلي الكامن في إسرائيل ذاتها كدولة معتدية ومغتصبة وعدوانية، أو الخطر الإسرائيلي الذي تمثله كأداة ضغط دولية على العرب.

وقد حدث هذا التغير على الصعيد العربي فقط، ولم يحدث أبدا على صعيد الدور السياسي الإسرائيلي في المنطقة. وبكلمات أخرى، يعتدل العرب بينما تبقى إسرائيل على حالها، متطرفة في أهدافها وتطلعاتها.

وإذا كانت الحدود الإسرائيلية مع لبنان أو مع الأردن أو مع سوريا هادئة، فإن ذلك لا يعني أن الاطمئنان يسود المنطقة، بل تتزايد وضعية إسرائيل العسكرية كدولة تهدد دول المنطقة. وحين نتابع تطور قوة إسرائيل العسكرية نلحظ تغيرا مثيرا للدهشة، إذ تطور إسرائيل سلاحها بحيث تستطيع توسيع عدوانها على أكثر من دولة عربية، بينما يتصرف العرب بأغلبيتهم وكأنهم لا يدركون مغزى ذلك.

مثلا.. تطور السلاح البحري الإسرائيلي، من خلال امتلاك الغواصات التي تتعهد ألمانيا ببنائها وتزويد إسرائيل بها، وهي خمس غواصات حتى الآن والسادسة في الطريق. كذلك تطور السلاح الجوي الذي أصبح يمتلك قدرات تدميرية غير طبيعية، تملكها دولة صغيرة المساحة وقليلة عدد السكان، ويثير كثيرا من الشك والريبة. وحين يأتي السلاح إلى إسرائيل فإنه يأتي أساسا من الدول العظمى، بحيث يصبح السؤال: من الذي يشكل خطرا على العرب، إسرائيل بقوتها المتنامية إلى حد يفوق إمكاناتها البشرية، أم الدول التي تزود إسرائيل بهذا السلاح لأهداف خاصة بها، إضافة إلى الأهداف الإسرائيلية؟

إن الرد على هذا السؤال بجوانبه الإقليمية والدولية يستدعي تفكيرا عربيا جماعيا لم يعد قائما، ويستدعي تفكيرا لم يعد قائما بدوره. فالتفكير العربي القائم في وجه إسرائيل، هو تفكير كل دولة على حدة.. تفكير لبناني وتفكير أردني وتفكير سوري، ولا يوجد أبدا أي تفكير عربي موحد، وهو ما يحدث خللا في المنطقة ليس من الجائز أن يستمر.

إن التركيز على هذا الوضع الآن لا يستهدف دق طبول الحرب ضد إسرائيل، بقدر ما يستهدف السعي لحماية النفس من خطر التنامي في القوة العسكرية الإسرائيلية. إن ما يحدث في المنطقة مثير للدهشة.. إذ بينما تتصاعد إمكانية أن يمتلك العرب قوة عسكرية قادرة على مواجهة إسرائيل (سلاح الصواريخ)، يتصاعد على أرض الواقع تنامي قوة إسرائيل في مواجهة العرب. ومصدر الخلل هنا هذا الغياب شبه الكامل لاستراتيجية عربية موحدة تواجه إسرائيل، بهدف كف شرها لا بهدف تهديدها أو تدميرها.

إن العرب يعتمدون على علاقاتهم الدولية، القوية أحيانا، في صد خطر إسرائيل. بينما تمتلك إسرائيل علاقات دولية قوية، وتمتلك في الوقت نفسه قوة عسكرية ملحوظة. وينشأ هكذا خلل استراتيجي في المنطقة، ليس بسبب الضعف العربي، بل بسبب غياب التعاون العربي، والتضامن العربي، والتخطيط الاستراتيجي العربي الموحد.

لقد كانت عوامل القوة العربية تتجمع في وجه إسرائيل، من خلال مؤسسة القمة العربية، وهي للأسف الآن مؤسسة غائبة، بينما توجد كل مكوناتها أمام أعيننا، الأمر الذي يطرح ضرورة التفكير في إعادة فاعلية هذه المؤسسة إلى حيز الوجود.

ولا يتعلق الأمر هنا بمواجهة إسرائيل فقط، إذ ثمة بعد آخر للمسألة، يتعلق بنظرة القوى الدولية للوضع العربي. فحين يتعلق الأمر بالدول العربية دولة دولة، تتشجع القوى الأجنبية الضاغطة، وتمارس ضغطها على العرب دولة دولة. أما حين تجد أمامها قوة عربية واحدة، فإن إمكانات الضغط الجماعي تصبح أضعف بكثير.

وإمكانات الخروج من هذا الوضع قائمة أمام أعيننا، إنما نحتاج إلى من يبادر، وإلى من يقود، وهناك تجربة عربية سابقة أثبتت وجودها في هذا المجال، إذ ما الذي يمنع من مبادرة تدعو إلى قمة عربية شاملة لبحث الوضع الاستراتيجي العربي في مواجهة إسرائيل والقوى الغربية الداعمة لها؟ ما الذي يمنع من مبادرة تنبثق عن هذه القمة وتقرر إنشاء تضامن عسكري بهدف حماية الذات من المخاطر المحيطة؟

في السنوات الثلاثين الماضية، كانت الحجة الأساسية التي تعرقل مسعى بهذا الاتجاه تتعلق بوضع مصر الخاص، والتي أخرجتها سياسة الرئيس الراحل أنور السادات من الصراع العربي الإسرائيلي. لكن التغيرات التي نبعت من داخل مصر نفسها ألغت هذه المعادلة، وفتحت باب عودة مصر إلى صلب السياسة العربية. ولا يحتاج الأمر إلا لمن يبادر داعيا إلى قمة عربية، وشارحا في الوقت نفسه أن مسؤولية هذه القمة صياغة استراتيجية عربية جديدة، لحماية الذات من الأخطار، وهي أخطار إقليمية ودولية، معروفة ومعلنة.

ليس من المعقول أن يستمر الوضع العربي على حاله الراهن، حيث كل دولة تفكر وحدها، وتؤسس سياستها بمعزل عن الآخرين، بينما تتداخل المسائل وتتشابك بحيث لا يمكن الفصل بينها.

ولا بد أن يكون واضحا أن الهدف من وراء هذه الدعوة هو حماية الذات أولا وليس تهديد الآخرين. والوضع القائم حاليا يشير إلى أن الآخرين يهددوننا، ونحن لا نستطيع حتى أن نضع خطة تضامنية لحماية أنفسنا.

لقد آن لهذا الوضع أن ينتهي.. وآن الأوان لصوت يرتفع داعيا لقمة عربية لحماية النفس قبل أن تكون لأي شيء آخر.

آن الأوان لحركة الكبار.. حتى لا تبقى حركة الصغار هي المسيطرة.