التفاؤل يولد من رحم الأنباء السيئة

TT

في ظل امتداد أزمة الديون الأوروبية إلى إيطاليا خلال الأسبوع الحالي، بدأ المعلقون في السوق التحدث عن نهاية استخدام عملة اليورو والانهيار المالي وعلامات نهاية العالم. بالطبع يعد امتداد هذه الأزمة إلى ثالث أكبر اقتصاد في أوروبا وثالث أكبر دولة مقترضة من الأمور الباعثة على القلق.

مع ذلك، هناك بعض التطورات الإيجابية وسط هذا المشهد القاتم، أولها استيقاظ وتنبه المستثمرين الذين يبيعون سنداتهم كنوع من الاحتجاج. إنهم يصيحون بأعلى صوت مما أجبر السياسيين في دول منطقة اليورو على الاستماع. وساهمت لا مبالاة وعدم اكتراث السوق في حدوث أزمة دول منطقة اليورو، حيث أدى إخفاق السوق في تحديد تكلفة المخاطرة الائتمانية في ديون دول منطقة اليورو الهامشية إلى تراكم عبء الديون الخارجة عن السيطرة. لقد استجابت الأسواق مؤخرا، على الأقل مبدئيا، للحلول غير الكاملة أو غير الكافية لأزمة منطقة اليورو، لكن هذا انتهى، ففي اليونان، نجح محتجو السندات في إقالة جورج باباندريو والحصول على حكومة تكنوقراط جديدة برئاسة لوكاس باباديموس، أستاذ الاقتصاد ونائب رئيس المصرف المركزي الأوروبي سابقا والذي تعهد بتنفيذ خطة الإنقاذ المالي. وفي إيطاليا، تمكنت جماعة الضغط هذه من التخلص من برلسكوني، وضمان الحصول على موافقة البرلمان على إجراءات تقشف كثيرة وتشكيل حكومة تكنوقراط ائتلافية برئاسة ماريو مونتي، أستاذ الاقتصاد والمفوض الأوروبي السابق. وفي إسبانيا، يعد حزب الشعب الممثل للتيار اليميني الوسطي بقيادة ماريانو راجوي، الذي يتعهد بتطبيق سياسات تقشفية صارمة، هو الأوفر حظا للفوز بالانتخابات المزمع إجراؤها في 20 نوفمبر (تشرين الثاني).

وتتحكم جماعة الضغط بالسندات في شروط الجدل السياسي الدائر في أوروبا، وباستثناء مناورة باباندريو الفاشلة، لا يدعم أي من الزعماء السياسيين أو الأحزاب السياسية في منطقة دول اليورو التخلف عن السداد أو ترك منطقة اليورو أو كليهما، مع ذلك يناضل الساسة من أجل تلبية وتنفيذ متطلبات السوق وآراء الناخبين المتناقضة التي تشير إلى كراهية عواقب التقشف، مع عدم الرغبة في الخروج من منطقة اليورو وعدم الثقة في قدرة تلك الإجراءات وحدها على تحقيق التعافي الاقتصادي، مع الخوف من أن يؤدي عدم اتخاذ مثل هذه الإجراءات إلى الطرد من منطقة اليورو. وبالتالي يشعر مواطنو إيطاليا بكراهية للتقشف، وهي كراهية مشوبة بخوف من أن يفضي ذلك إلى طرد إيطاليا من منطقة اليورو وهو ما يعد من أسوأ العواقب. فقط هؤلاء الزعماء السياسيين والحكومات التي تتمتع بمصداقية ورصيد سياسي يمكنهم من الاستمرار في تنفيذ إجراءات التقشف ويستطيعون أن يأملوا في تحقيق توازن بين طلبات حاملي السندات المحتجين وجمهور الناخبين.

ومن التطورات الإيجابية الأخرى أن تزايد مشكلات إيطاليا سيعني ضرورة إعادة النظر في خطة الإنقاذ، ويبلغ مقدار ديون إيطاليا التي لم تسدد 1.9 تريليون يورو وتجاوز حجم ديونها المستحقة عام 2012، 300 مليار يورو، وتتعرض أكبر 10 مصارف أوروبية مالكة للديون الإيطالية لخسارة 170 مليار دولار، وقد يصل إجمالي حجم الديون المستحقة التي ربما تخسرها تلك المصارف إلى 590 مليار يورو، ويعني حجم المشكلة أن خطة الاستقرار المالي لا تكفي لتمويل خطة إنقاذ إيطاليا، وبعيدا عن خطة الاستقرار، ستكون الالتزامات الحالية بتنفيذ برامج الإنقاذ والتزام إيطاليا بتمويل خطة الاستقرار المالي أقل من المبلغ المطلوب لتسديد 300 مليار يورو مستحقة عام 2012. وعلى الرغم من عدم كفاية المبلغ المخصص لتمويل خطة الاستقرار المالي وهو تريليون يورو، فإنه لم يتم توفيره بعد. ومثل هذا المبلغ سوف يستنفد في خطة إنقاذ إيطاليا وحدها مما لا يترك سوى قدر ضئيل لأي ظروف أخرى مستجدة. ويعني هذا أن الاتحاد الأوروبي سيحتاج إلى زيادة تمويل خطة الاستقرار المالي مرة أخرى والحصول على مصادر لهذا التمويل، الأمر الذي يمثل تحديا كبيرا. الخيار الآخر هو السماح للمصرف المركزي الأوروبي بشراء غير محدود لسندات تصدرها حكومات دول منطقة اليورو القادرة على سداد ديونها، وربما يكون هذا هو الحل الوحيد المتاح على الرغم من معارضة ألمانيا الشديدة لهذا التوجه. ومن المفارقة أن يمنع التزام ألمانيا النقدي المصرف المركزي الأوروبي من اللجوء إلى هذا التوجه للمساعدة في حل الأزمة، في الوقت الذي تستمتع فيه الولايات المتحدة والمملكة المتحدة بموقع «الملاذ الآمن»، ويعملان على إعادة إنعاش اقتصادهما من خلال التيسير الكمي.

يجب أن نضع نصب أعيننا أن وضع إيطاليا ليس مثل وضع اليونان، فهي تواجه مشكلة في السيولة النقدية، لكنها ليست مفلسة. الجدير بالذكر أن عائدات سندات الحكومة الإيطالية التي يبلغ أجلها 10 سنوات تجاوزت السبعة في المائة خلال الأسبوع الحالي. مع ذلك لا تزال إيطاليا قادرة على التعامل في الأسواق، حيث أصدرت سندات بقيمة 5 مليارات يورو ذات أجل عام في 10 نوفمبر (تشرين الثاني) بعائدات قدرها 6.087 في المائة، أي تقريبا ضعف العائدات على السندات التي أصدرتها في أكتوبر (تشرين الأول) التي بلغت3.57 في المائة. ولن يؤثر عبء فوائد الديون على إيطاليا في الحال، لكن فقط عندما تسدد إيطاليا ديونها وإلى الحد الذي يجعل تكلفة هذه الديون ثابتة عند تلك المستويات الاستثنائية. ويبلغ احتياطي إيطاليا من النقد 35 مليار يورو، لذا فهي ليست بحاجة إلى مباشرة المعاملات في الأسواق فورا.

وكان الهدف من قرار استمرار طرح إيطاليا لسندات في الأسبوع الماضي هو تفادي إحداث المزيد من الذعر في الأسواق، إضافة إلى ذلك تستطيع إيطاليا سداد ديونها بما فيها الفوائد الإضافية. وكانت قيمة فاتورة الفوائد التي على إيطاليا العام الحالي 75 مليار يورو، مقارنة بعائدات ضرائب تبلغ 500 مليار يورو، وحتى إن زادت فاتورة الفوائد التي على إيطاليا تحملها إلى 85 مليار يورو العام المقبل، فستظل قادرة على التسديد، وبالطبع لا يعد هذا من التطورات الإيجابية، لكنه ليس نهاية المطاف، وسوف تحتاج إيطاليا إلى تسديد 200 مليار يورو قيمة السندات وفوائد قدرها 108 مليارات يورو العام المقبل. وتبلغ أول دفعة مستحقة من السندات 26 مليار يورو ومن المفترض تسديدها في فبراير (شباط). وتحظى إيطاليا والاتحاد الأوروبي بفرصة إعادة الثقة إلى الأسواق، وفي حال تحقيق ذلك بحلول شهر فبراير أو عدم وضع الاتحاد الأوروبي خطة إنقاذ مناسبة، يمكن لإيطاليا الحصول على قرض ثنائي من صندوق النقد الدولي، وقد عُرض عليها بالفعل، لكن إيطاليا رفضته في قمة مجموعة العشرين الأسبوع الماضي.

ومن المتوقع أن يؤثر امتلاك المصارف حصة من الديون الإيطالية على سيولتها النقدية بها أكثر مما سيؤثر على وضعها المالي، مع ذلك فإن افتراض أن ديون الحكومة الإيطالية يمكن سدادها وأن على المصارف خفض القيمة الدفترية لحصتها منها، ليس له أي أساس من الصحة. مع ذلك قد يؤدي احتمال تخلف إيطاليا عن السداد في المستقبل إلى تعرض المصارف الإيطالية والمصارف الأخرى التي تملك حصة كبيرة من الديون الإيطالية لضغوط مالية.

وفي أكتوبر اقترضت مصارف إيطالية 113 مليار يورو من المصرف المركزي الأوروبي، بينما اقترضت في يونيو (حزيران) 41 مليار يورو، مما يشير إلى زيادة الضغوط المالية، وسيتعين على مصارف إيطالية تسديد سندات بمقدار 88 مليار يورو مستحقة العام المقبل، ولكن على الرغم من ذلك، من المأمول أن يكون احتمال امتداد العدوى إلى إيطاليا بمثابة جرس إنذار للأسواق والساسة في دول الاتحاد الأوروبي على حد سواء للتعامل بجدية أكثر مع أزمة الديون.

* مصرفي ومحام أميركي - المدير التنفيذي والشريك بشركة إيميرجينغ غروث إنفستمنت بارتنرز في حي المال البريطاني