القوى الناعمة!

TT

نشاهد عالما عربيا جديدا يجري تشكيله، عناصر التشكيل فيه تعتمد على أدوات جديدة غير مسبوقة، وهي ما يمكن تعريفه بالقوى الناعمة، القوى الناعمة على عكس ما كان يعرف قديما بالقوى التقليدية المعتمدة على السلاح والجيوش. وأدوات القوى الناعمة اليوم الأبرز هي وسائل الاتصال الحديثة والإعلام الاجتماعي التواصلي والمال، وهي الوسائل التي مكنت الكثير من الشعوب من تشكيل «أحزاب افتراضية» ذات فعالية بالغة الدلالة والتأثير على الأرض تمكنت من خلالها من نقل الأخبار والمعلومات وتجييش الرأي العام المحلي والعالمي.

هذا المشهد الجديد بات مؤثرا أكثر من الأحزاب التقليدية القديمة التي ابتعدت عن شعاراتها التي أسست بموجبها والتي اخترقها الفساد، بشكل مدهش ومقزز، وباتت أكثر أهمية من البرلمان «المنتخب» من الشعوب، لكنها تحولت إلى أدوات لمباركة الظلم والفساد والقمع والاستبداد، وباتت أكثر مصداقية من أبواق الإعلام الرسمي التي لم تعد لها الجدارة ولا المصداقية حتى في بث نشرات الأحوال الجوية. القوى الناعمة هذه أسرع وأكثر شفافية وذات حراك لا حدود ولا آفاق له، وهي كلها وسائل أصابت الأنظمة العقيمة بالدهشة والذهول لأنها تعودت على مواجهات مباشرة مع منظمات وحركات واضحة الملامح على الأرض.

هذه القوى الناعمة ليست كل وسائلها بريئة على كل حال؛ فهناك استغلال واختراق للكثير منها، بل إن بعض هذه الأنظمة العتيقة حاولت أن تستغلها فقامت بترويج نفسها من خلالها، لكن «المضمون» الذي تقدمه من خلالها لم يكن يختلف كثيرا أبدا عمَّا تقدمه من خلال الوسائل التقليدية، وكانت الرسائل نفسها بالية وغير مقنعة أبدا؛ لذلك «فُضحت وانكشفت» ولم تأتِ إلا بنتائج عكسية تماما. حرية الرأي وحرية الكلمة وجدت منبرا عظيما وكبيرا لها ومناخا غير مسيطر عليه، وباتت المعلومة والخبر بالتالي حرين وشعبويين وليسا محصورين في نخبة محددة.

والمدهش والمثير في هذه الوسائل هو قدرتها على التطوير وتحسين أدائها بشكل مستمر ومتواصل، والدخول إلى شرائح عريضة من الناس وتوضيح وجهات نظرها بالكلمة والصوت وبالصورة وبشكل آني وفوري يجعل الأنظمة القديمة في حالة دفاع وتقهقر متواصل. تهزم هذه الوسائل ويتم القضاء عليها بمنتهى السهولة إذا كان ما تطالب به غير موجود ونسجا من الخيال، لكن أرض الواقع والمظالم التي تحصل فوقها تبقى هي المعيار الأهم والأصدق لجدارة ما تطرحه وتروج له، ولا تجد هذه الأنظمة القديمة بدا سوى تكذيبها واتهامها بالخيانة والعمالة وتهديدها بالقتل بدلا من الاعتراف بما تم طرحه والإقرار بأن هناك مشكلة حقيقية وجادة جدا لا بد من علاجها والتصدي لها. وهذه الوسائل اليوم باتت ملك الشعوب أينما كانوا، وهي تستخدم بطرق وأساليب مختلفة في دول العالم الثالث والدول الصناعية الكبرى بدرجات متفاوتة بحسب حالات الدول ومطالب الشعوب بها، لكنها حتما تجربة جديدة مثيرة لم تكتمل بعد ولا تزال مرنة وبها الكثير من الحراك الذي لا يزال مرشحا لأن يأخذ أشكالا وأبعادا جديدة. هذا الحراك الحيوي ستكون له آثار مهمة جدا، ليس فقط على الصعيد السياسي كما هو الواضح الآن، لكن حتما سيكون مؤثرا في مجالات المال والاقتصاد، في سياسات العمل والتوظيف، في سياسات حقوق المستهلك وحمايته، في قوانين الأسرة والعنف والتحرش، في مجالات مكافحة العنصرية ومنع التفرقة، في أوجه محاربة الفساد وتفعيل القضاء وتطوير الشفافية والمحاسبة.

إننا أمام عالم جديد يتشكل ويتكون بقوانين جديدة ولاعبين مختلفين. ولتأكيد أهمية ما يحدث في العالم العربي وصداه على العالم أستشهد بهذه القصة الطريفة: استعان القذافي بجنسيات العالم المختلفة لدعم نظامه، ومن ضمن جنسيات من استعان بهم كان 22 طبيبا من كوريا الشمالية، وبعد سقوط القذافي «رفضت» كوريا الشمالية عودة هؤلاء الأطباء إليها، وطالبت بأن يبقوا في ليبيا، وذلك خوفا من أن ينقلوا ما شاهدوا وسمعوه هناك إليها، علما بأن عدد مستخدمي الهاتف الجوال في كوريا الشمالية لا يتجاوز 1% لعدد السكان البالغ 24 مليون نسمة، ولا توجد خدمات الـ«تويتر» ولا الـ«فيس بوك» ولا الـ«يوتيوب» ولا تعرض قنوات الـ«بي بي سي» ولا الـ«سي إن إن» ولا «الجزيرة»، ومع ذلك هناك ذعر فيها من أن تكون عرضة لهبات من النسيم الآتي من الربيع العربي. إنه عالم متغير جديد تغيرت قواعد اللعبة فيه، ولا يزال في حالة تشكل وتبدل ولم تنتهِ فصول الربيع العربي وآثاره بعد.. تابعوا جيدا سوريا واليمن. القوى الناعمة هي العنوان الجديد للسياسة العالمية ومن يملكها ويعرف أسرارها جيدا بات لاعبا مؤثرا على الساحة الدولية.

[email protected]