فض اشتباك الدستور والبرلمان هو الحل

TT

مصر في محنة، لا شك، والمحنة نحن صنعناها بأيدينا ولم تنزل من السماء، ولا حل لها إلا بفصل المسارين بين البرلمان والدستور، أي أن تكون الانتخابات البرلمانية شيئا، وانتخاب الجمعية التأسيسية للدستور شيئا آخر؛ فالبرلمان مؤقت، والدستور أمر مفترض فيه الدوام، البرلمان لهؤلاء الناس الذين يعيشون الآن، وليس لهم جميعا، بل لجزء منهم، ولبضع سنين، أما الدستور فهو خارطة أساس الوطن وللأجيال المقبلة، وليس لهذا الجيل وحده.

المادة 189 من المواد الدستورية المستفتى عليها في مارس (آذار) الماضي، أو المادة 60 من الإعلان الدستوري الذي وضعه العسكر بعد الاستفتاء للأسف تجعلان الدستور نتيجة للبرلمان وتربط بينهما ربطا وثيقا.

وأنا أرى، لعلاج الأزمة الحالية التي تمر بها البلاد، أن يكون هناك انتخابان مختلفان: أحدهما للبرلمان والآخر للجنة الدستور؛ لأن الأمرين مختلفان في الدوافع والأهداف.

وكما ذكرت آنفا، تختلف دوافع أعضاء البرلمان وأسباب ترشحهم لمناصبهم عن دوافع لجنة تأسيسية لوضع الدستور؛ لهذا يجب أن ينتخب البرلمان بمفرده وبمعزل عن اللجنة التأسيسية للدستور، ويجب عدم الربط بين الأمرين.

أعرف أن هناك نماذج يقوم فيها أعضاء البرلمان بانتخاب لجنة تأسيس الدستور، لكن هذا يحدث في بلدان يكون فيها عضو البرلمان مشرعا بحق.

ففي الكونغرس الأميركي، مثلا، نادرا ما يكون النائب البرلماني من غير الحاصلين على شهادة الحقوق، وشهادة الحقوق عندهم ليست شهادة مدرسية كالتي عندنا في مصر بعد الثانوية العامة؛ فالمحامي الأميركي يحصل على درجة مساوية لدرجة الدكتوراه في القانون (jd) حتى يمارس المحاماة، ويدخل الطلاب كلية الحقوق بعد انتهاء دراستهم الجامعية، أي ما يشبه الدراسات العليا عندنا؛ فالحقوق ليست شهادة جامعية بعد الثانوية العامة كما الحال في مصر، شهادة الحقوق عندهم مساوية لدرجة دكتوراه القانون عندنا.

وبهذا يكون المشرع البرلماني ناضجا وملما بدقائق القانون. أما في برلمان كبرلمان مصر، الذي ينص الدستور والإعلان الدستوري على أن يكون نصفه من العمال والفلاحين، فهو ليس بالمكان المناسب لاختيار لجنة كتابة الدساتير، وهذا رأيي الذي أستطيع الدفاع عنه بقوة ولساعات طوال.

مهم أيضا أن يعي القارئ الفرق بين من يترشح ليكون جزءا من لجنة كتابة الدستور، وهو عمل تطوعي لا يعود على صاحبه لا بشهرة أو بمال، إنما هو عمل خالص من أجل بناء وطن لنا وللأجيال المقبلة، دوافعه غير دوافع أعضاء البرلمان المحصورة بالمنصب الجديد وبالحصانة والمنافع الخاصة، وكما يعلم الجميع في العالم الثالث يصبح الناس أعضاء في البرلمان ليس من أجل دورة تشريعية وتغيير قوانين، بل للحصول على مزايا خاصة بالفرد وأقاربه وأحيانا دائرته التي يمثلها، ومن هنا يخضع انتخابه لمعايير غير تلك التي يخضع لها مرشح لعضوية المائة التي ستكتب الدستور والتي ليس لأعضائها ميزات العضوية البرلمانية؛ فهي لجنة ستكتب الدستور ثم تنفض بعدها.

أعرف أن فيما أكتبه هنا مخالفة للمادة 189 من الدستور القديم المستفتى عليه في مارس الماضي، ومخالفة أيضا للإعلان الدستوري الذي أقره المجلس العسكري وتجاوز الاستفتاء، لكنني أعرف أن من وضع الإعلان الدستوري قادر أيضا، بحكم صلاحياته، أن يفصل بين عضوية البرلمان ولجنة كتابة الدستور، وقادر على فض هذا الاشتباك المدمر لمستقبل الأجيال المقبلة في مصر، وليس مستقبل هذا الجيل وحده.

في السابق، اختلف المصريون في معركة كبيرة كانت بين من يرى أن كتابة الدستور تأتي قبل انتخاب أعضاء البرلمان، جماعة الدستور أولا، وجماعة الانتخابات أولا، واليوم هناك معركة جديدة حول وثيقة علي السلمي، التي هي بمثابة مبادئ حاكمة للدستور، سمِّها مسودة أو غير ذلك، لكن نتيجتها هي أن هناك من ينادون بمليونيات لإسقاطها.

إذن هي وثيقة تفرق ولا تجمع، ومن هنا يأتي الحل التوافقي الذي أطرحه هنا، المتمثل في فصل المسارين: انتخاب المائة بمعزل عن انتخابات البرلمان وعن أعضاء البرلمان؛ لأن الدوافع والمقاصد مختلفة في الحالتين.

وتعدل المادة 60 من الإعلان الدستوري، التي تقول: «يجتمع الأعضاء غير المعينين لأول مجلسي شعب وشورى في اجتماع مشترك، بدعوة من المجلس الأعلى للقوات المسلحة، خلال ستة أشهر من انتخابهم، لانتخاب جمعية تأسيسية من مائة عضو، تتولى إعداد مشروع دستور جديد للبلاد في موعد غايته ستة أشهر من تاريخ تشكيلها، ويعرض المشروع، خلال خمسة عشر يوما من إعداده، على الشعب لاستفتائه في شأنه، ويعمل بالدستور من تاريخ إعلان موافقة الشعب عليه في الاستفتاء».

«مادة 60 من الإعلان الدستوري» تعدل كي تصبح: «يدعو المجلس العسكري، بصفته ممثلا للسيادة في البلاد، إلى انتخاب لجنة إعداد مشروع الدستور الجديد للبلاد، لجنة تمثل تنوع الوطن بمحافظاته المختلفة لما لكل منها من رؤى فرضتها الظروف الطبيعية، وتمثل كل محافظة في الوطن بأربعة ينتخبون انتخابا حرا مباشرا، مع انتخابات البرلمان أو في انتخابات خاصة. ويفض عمل اللجنة بمجرد كتابة مسودة الدستور».

من وضع هذه المادة في الإعلان الدستوري يستطيع أن يضع مادة بديلة، ويخلق توافقا جديدا بدلا من تلك الوثيقة المعيبة المسماة وثيقة السلمي، التي تسهم في الشقاق لا في الوفاق.

المهم هو أن أمام المصريين الآن فرصة لفصل البرلمان عن الدستور قد ينجحون فيها، يتجنبون بها المعركة الوهمية لوثيقة السلمي، ويتجنبون بها معركة الدستور أولا أو الانتخابات أولا، فلا يستقيم للعقل أن ندخل معركة كالدستور أولا مقابل الانتخابات أولا بينما كان يقول الإعلان الدستوري المستفتى عليه من الشعب، وسبب الورطة، إن الدستور هو تفصيلة ضمن تفصيلات البرلمان واختصاصاته، وليس بالشيء الكبير.

آن لنا أن نترفع فوق الخلافات الصغيرة، وندرك أن الكون لا يدور حولنا، ونتواضع قليلا؛ لأن الوطن ليس ملكنا وحدنا، بل ملك أجيال لم تولد بعد.