العقدة السورية والورطة اليمنية

TT

لم يكن مستغربا أن يعارض اليمن الرسمي قرار الجامعة العربية بشأن سوريا، فالوضع في البلدين قد يكون مختلفا في الكثير من التفاصيل، لكنه يبدو متشابها في عدة جوانب، خصوصا في ما يتعلق بكيفية تعامل النظامين مع مساعي الحل العربية ومحاولاتهما الالتفاف على هذه المساعي أو استخدامها لكسب الوقت على أمل النجاح في قمع الاحتجاجات الشعبية وإجهاض مطالب التغيير. كلا النظامين قدم التزامات ولم ينفذها، كما قطعا وعودا لم يوفيا بها، والسبب واحد في الحالتين وهو عدم وجود رغبة حقيقية في إنجاز التغييرات التي تتجاوب مع تطلعات الناس ومع مطالبهم التي عبروا عنها في الاحتجاجات المستمرة رغم القمع والبطش.

فمنذ البداية اعتبر النظامان المحتجين خونة، ومطالبهم مؤامرة تحركها أطراف أجنبية، ومن وقتها كان واضحا أنهما لن يقدما التنازلات التي تلبي المطالب الشعبية، وأنهما سيلجآن إلى كل الأساليب والحيل لإجهاض الاحتجاجات، وفي كل الأحوال لن يوقفا سياسة البطش والقمع. علي عبد الله صالح راهن على أن الغرب يحتاج إليه لمحاربة «القاعدة» في اليمن، وأن دول المنطقة تخاف من الانفلات الأمني والفوضى في بلد صعب بجغرافيته ومعقد بتركيبته السياسية والقبلية، ومدجج بالسلاح المنتشر بين الناس. لذلك خاطب المتظاهرين بجملته الشهيرة «لن أرحل.. ارحلوا أنتم».

أما النظام السوري فقد راهن على أن الغرب يحتاج إليه حتى وإن لم يحبه لأنه يتخوف من البديل ولا يريد زعزعة الاستقرار على حدود إسرائيل، وهو التفكير الذي فضحته تصريحات رامي مخلوف ابن خال الرئيس الذي كان يعتبر من المتنفذين في أوساط النظام، عندما قال لصحيفة «نيويورك تايمز» إنه إذا لم يكن هناك استقرار في سوريا فلن يكون هناك استقرار في إسرائيل. ولكي لا يقال إن تلك التصريحات قديمة وتبرأ منها النظام، لا بد من الإشارة إلى سلسلة التهديدات التي أطلقتها القيادة السورية عدة مرات بإشعال المنطقة وبنقل الاضطرابات والمشاكل إلى دول أخرى، والقول بأن ما يصيب سوريا لن يقف عند حدودها بل سيمتد إلى الجوار وحتى الخليج.

لم يكن هذا الرهان الوحيد، إذ عولت دمشق، كما عولت صنعاء، على أن ردود الفعل العربية الرسمية ستبقى في دائرة العجز عن القيام بأي تحرك ذي تأثير، ولن تخرج في سقفها الأعلى عن بيانات الاستنكار والإدانة والدعوات لوقف العنف وحقن الدماء. هكذا كان الرفض في البداية لأي تحرك أو تدخل عربي، واعتبار أن الحل سيكون داخليا، وهو ما يعني بالطبع قمعا أمنيا لخنق الانتفاضة الشعبية، ومحاولة تقديم حلول ديكورية ووعود فضفاضة بالإصلاح. ولاحقا تبنى النظامان استراتيجية المماطلة ومحاولة كسب الوقت بتقديم الوعود والالتزامات التي لا تنفذ، وبإعلان القبول بالمبادرات العربية، لكن من دون اتخاذ خطوات حقيقية لتنفيذها.

هذا الرهان كان مضمون النجاح في الماضي، لكن العالم العربي بدأ يتغير ولم يعد كما كان قبل تاريخ هروب بن علي وتنحية مبارك أمام عاصفة الاحتجاجات والمظاهرات الشعبية. ظهرت ملامح هذا التغيير في الموقف العربي إزاء أحداث ليبيا وفي القرارات التي اتخذت في الاجتماعات التي عقدتها الجامعة العربية، وشكلت نقطة تحول في مسار أحداث الثورة الليبية. وقتها رد القذافي وابنه سيف الإسلام على قرارات الجامعة بالعبارة القبيحة «طز في العرب.. وطز في جامعتهم». اللغة ذاتها سمعناها في رد الفعل المنسوب للمندوب السوري لدى الجامعة العربية، عقب قراراتها الأخيرة التي فاجأت دمشق التي لم تتوقع كما يبدو أن تنجح الجامعة في تبني قرارات قوية. والواقع أن النظام السوري لم يكن وحده في توقع عدم خروج العرب بأي قرارات ذات معنى تتجاوز الكلام والبيانات إلى الفعل، فالمحتجون أيضا رفعوا سابقا اللافتات التي نددت بالمهلة التي منحتها الجامعة العربية للحكم السوري واعتبروها مهلة لمواصلة القمع والقتل.

قرارات الجامعة الأخيرة لن تؤدي وحدها إلى إجبار الحكم السوري على التجاوب مع مطالب شعبه في التغيير لكنها على الأقل أعطت دفعة معنوية للمحتجين، وفتحت الباب أمام خطوات لاحقة عربية ودولية لتشديد الضغوط على النظام، بل إنها قد تكون نقطة تحول في مسار الأمور. فالموقف العربي ذهب خطوات أبعد هذه المرة عندما خاطب الجيش السوري داعيا إياه إلى عدم التورط في أعمال العنف وقتل المدنيين، وعندما دعا المعارضة السورية إلى الاجتماع في مقر الجامعة لبحث خطوات المرحلة المقبلة والاتفاق حول رؤية موحدة، أو بالأحرى خريطة طريق لمسار الأحداث ومستقبل سوريا. فهاتان الخطوتان تحملان دلالات كبيرة وتوجهان رسالة بأن غالبية الدول العربية ترفض روايات النظام السوري ولم تعد تقتنع بوعوده، وبالتالي فإنها باتت أميل إلى تقبل دعوات المتظاهرين للنظام بالرحيل. وربما في هذا الإطار يمكن قراءة تصريحات العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني أول من أمس التي دعا فيها الرئيس الأسد إلى التنحي من أجل مصلحة شعبه.

سوريا باتت مرشحة الآن لتطورات وتحولات كبيرة في مسار الأزمة، بعد أن أوصل النظام مختلف الأطراف التي حاولت مساعدته على حل الأزمة، إلى قناعة بأنه غير جاد في وعود التغيير ووقف العنف. وبسبب هذا الموقف تجاوز العرب أخيرا عقدة عدم اتخاذ خطوات واضحة وقوية ضد النظام لكي لا تفسر على أنها دعم لمطالب المحتجين الذين ينادون بتغييره.

وما دامت الأمور تحركت بهذا الشكل في سوريا، فإن اليمن لن يكون بمعزل عن التداعيات، لأن الرئيس صالح أوصل أيضا مختلف الأطراف إلى قناعة بأنه يناور للتشبث بالسلطة، وأن وعوده التي لا تنفذ أصبحت ورطة تهدد المبادرة الخليجية، وأنه لا بديل الآن عن تصعيد الضغوط للتعجيل بتنحيه حتى لا تنزلق الأمور نحو عنف أشد.

[email protected]