الليبراليون والروح الرياضية!

TT

يبدو أن الغرب بشكل عام والولايات المتحدة بشكل خاص قد حسموا أمرهم فيما يخصّ التعامل مع مستقبل المنطقة الجديد في زمن ما بعد الثورات، وذلك من خلال التسليم بالقادمين الجدد إلى الساحة، وهم الإسلاميون بمختلف تنويعاتهم وتشكلاتهم السياسية، وحتى تلويناتهم الفكرية التي لا يمكن لها أن تؤثر على الأداء السياسي على الأرض متى ما تطور الخطاب السياسي وانفصل عن الخطاب الدعوي، وتلك مسألة أخرى.

الإشكالية اليوم كما يفرزها الخطاب العربي التائه ما بين الصعود القادم للإسلاميين وبين الأنظمة الديكتاتورية التي أصبحت من الماضي غير المأسوف عليه هي إشكالية «وعي بالزمن»، فالخطاب السياسي العربي بنخبويته المتعالية على الجماهير يجد نفسه اليوم في مأزق كبير، لا سيما أنه كان في المرحلة السابقة يكافح على الجبهتين ضد منطق السلطة وخطابها، وإن لم يكن في جبهة المعارضة الصريحة وضد خطاب الأصولية وإن لم يكن يعارض بشكل جذري الخطابات الإسلامية المستنيرة التي يتفق معها في مجمل الخطوط العريضة حول حقوق الإنسان والكليات العامة لمفردات الخطاب المدني في شكله المعاصر، لكنه الآن بعد مرحلة الثورة يبدو معزولا تماما عن سياق الزمن ومفصولا عن الأرض بحكم عدم احتكامه إلى قواعد جماهيرية حقيقية ولا يتمتع بصلات إيجابية مع رموز الحركات الإسلامية بسبب مرحلة التراشق اللفظي الذي تمت بين الطرفين ليس في المجال السياسي الذي لم يكن حلبة صراع بحكم تفرد السلطة وإنما في خطف كعكة الجماهير عبر التفرد بسلطة المجتمع من خلال التأثير فيه عبر مصادر التلقي والتي كانت ولا تزال في السياق التاريخي الأقرب إلى الإسلاميين أو من يرفع عموما الشعارات الدينية لأسباب تتصل بطبيعة المجتمعات العربية الميالة للمحافظة بحكم تجذر الهوية رغم كل المظاهر الخادعة أو الوقتية التي أوحت في أزمنة ما بأن ثمة تغييرات عميقة طالت بنية المجتمع العربي.

واقع الخطاب العربي اليوم سواء في شقه السياسي الأضعف أو حتى الفكري الذي يعاني من صدمة قوية بفعل الثورة لا يبشر بخير في ظل هذا الاستقطاب السياسي الذي تعيشه المنطقة، وفي ظل حال «الفشل» باتجاه أي تغييرات حقيقية في طريقة التعامل مع الواقع الجديد وعبر مسائل أولوية وبسيطة، وأبرزها إعادة النظر في العلاقة مع الإسلاميين، فالتجاذبات ذات الطابع الاجتماعي والقيمي باتت تستنزف الكثير من الجهد الذي كان يمكن أن يجير لحساب التنمية والتطوير والاستثمار في الإنسان متى ما وجدت أرضية مشتركة للتفاهم، وهي في نظري على الأقل قابلة للاستثمار مع فصيل عريض من المستنيرين من أبناء الحركة الإسلامية الصاعدة الآن، فمن الخطأ بمكان أن نعتقد أن جميع المكونات الثقافية للمجتمعات العربية تتأثر وتتطور بما يجري حولها دون أن يمس ذلك تيارا ما مهما كانت هذه التيارات تعيش أزمة العزلة داخل خطابها المغلق في قضايا الهوية لكنه يتغير ويتطور فيما يخص القضايا العامة في مسائل الاقتصاد بالدرجة الأكبر وبشكل أقل فيما يخص العمل السياسي وطريقة تداول السلطة.

وإذا كانت الاستحقاقات القادمة للمنطقة ستكون صعبة للغاية على المستوى الاقتصادي، والأهم الاستقرار الأمني الذي عادة ما يتبع إيجاد صيغة سياسية مقبولة يمكن التوافق عليها فإن الأزمة الحقيقية ما زالت داخل الخطاب الثقافي السائد الذي تندرج تحته الرؤى السياسية والدينية والاقتصادية على اختلاف تياراتها، فهو خطاب ما زال غير مدرك للأزمة بل حولها إلى حال جراح نرجسية حادة تشبه إلى حد كبير حال الذهول في بدايات الخروج من شرنقة الاستعمار.

الأزمة الحقيقية اليوم ما بين الإسلاميين الصاعدين إلى السلطة وبين خصوم الأمس من التيارات السياسية ذات النزعة الليبرالية هي نهاية حقبة الوفاق «الهش» بين الطرفين في مواجهة السلطة المستبدة، وطريقة التعامل مع الوضعية الجديدة كسلطة لم تستطع التخلص من «شغب» المعارضة الذي يظل ملازما عادة لكل الحركات السياسية التي تنتقل من الضفة الأخرى لتجد نفسها أمام واقعية «السلطة»، لكن الأكيد أن البيئة الدولية والمناخ السياسي العام اللذين لم يكونا مهيأين لهضم «الإسلاميين» في السابق يبدوان الآن جاهزين الآن وفق شروطهما مدعومين بتطورات هائلة يعيشها الخطاب الإسلامي في الجانب السياسي بسبب الضغط العنيف الذي عانى منه في أكثر من تجربة سياسية اقترب فيها من عرش السلطة على مستوى الأسئلة القوية حول رؤيته لإدارة السلطة، ومن هنا فكلا الطرفين، الإسلاميين والغرب، يعيد التساؤل حول التعامل مع الديمقراطية كأداة محايدة وليست كمفهوم موجه يستلزم حدا أدنى من التوافق السياسي مع المناخ العام، وهو الأمر الذي يصر المتشددون داخل الخطاب الإسلامي على تجاهله، معتبرين أن مجرد الفوز في سباق الانتخابات كفيل بحصد «كأس» الشرعية السياسية.

المشكلة تكمن في أن «رأسمال» الحركات الإسلامية الذي حققت به فوزها الكاسح اليوم سواء في تونس أو في مصر واليمن وليبيا غدا لم يكن سياسيا لتعود نتائجه على مستوى الإنجاز السياسي، بل كان شعبيا وبامتياز عبر الآلة الإعلامية الضخمة التي اعتمدت على الشعارات البراقة في ظل تردي وضعية فتح وتفاقم مشكلاتها الداخلية، وكان من الطبيعي أن يؤدي هذا التضخم الشعبي على حساب السياسي إلى وجود فوارق هائلة بين الخطاب والممارسة، وهو ما سيضر بالحركة الإسلامية أكثر مما سينفعها، فالتحول المفاجئ من معارضة نزيهة إلى سلطة مكتوفة الأيدي وصولا إلى الانفصال والفرقة عجل بحالة «الفشل» على مستوى الحصافة السياسية، وبالتالي خسارة تعاطف المجتمع الدولي، بل تعدى ذلك إلى خسارة تعاطف الدول المستقرة التي عادة ما تتحفظ على حالة الفوضى السياسية، والتي يعد أحد إفرازات الديمقراطية - الأداة حين يتم التعامل معها ببراغماتية تفرغها من محتواها الحقيقي «برامج سياسية، حريات، تنمية». وهو الأمر الذي سيتحول إلى كارثة حقيقية لاحقا متى ما تضخم رأسمال الثوري المقاوم على حساب المكاسب السياسية والتأثير على واقع معقد كالأزمات الحقيقية في داخل المجتمعات العربية والإسلامية، وهي أزمات اقتصادية بالأساس.

[email protected]