دينيس روس.. لماذا؟!

TT

الذين يعرفون الدبلوماسي الأشهر، دينيس روس، يستطيعون استنتاج السبب الحقيقي لمغادرته البيت الأبيض وعودته إلى معهد واشنطن، حيث المكان المناسب له بين كل مهمة رسمية وأخرى.

دينيس روس لم يغادر موقعه المهم في البيت الأبيض لأن عقده انتهى، أو لأنه راغب في إجازة، أو التفرغ للأبحاث.. فكل ما تقدم لا يحمل رجلا بمؤهلاته ومكانته على المغادرة.. إن دينيس توصل إلى استنتاج ربما يكون دقيقا وفعالا، مفاده: «لا مجال لإنفاق الوقت والجهد وراء الأبواب المغلقة بإحكام».

وهنا يتعين على أهل الشرق الأوسط، الذين أدمنوا استقبال وتوديع المبعوثين الأميركيين، أن ينتبهوا إلى هذا المؤشر القوي على فقدان الجدوى، وابتعاد الفرص، وانضمام أحد عرابي محاولات ومجازفات السلام في الشرق الأوسط إلى معسكر الأغلبية الذي فقد الأمل بإعادة الحياة للعملية السياسية، وراح كل طرف من أطرافه أو لاعب من لاعبيه يفتش عن موطئ قدميه خلال المرحلة السياسية المقبلة التي يمكن وضع عنوان لها هو «التخلي الأميركي حتى عن جهود الحد الأدنى في إدارة الانهيارات المتلاحقة لعملية السلام».

ومع أن مؤشرات التخلي ظهرت على نحو مبكر، أي خلال الشهور التي تلت خطاب القاهرة وأنقرة، وحتى الجمعية العامة قبل سنة وشهر من الآن، والتي حلت محلها خطب «الأيباك» ثم الجمعية العامة، في ما يسميه الفلسطينيون ربيعهم الجديد، مع أن هذه المؤشرات المبكرة والبليغة والحاسمة ظهرت وختمت المرحلة السياسية الراهنة بخاتمها النهائي، إلا أن ثقافة التعود على أميركا، والرهان على تدخلها في وقت ما، ظلت تداعب تفكير وحسابات اللاعبين في المنطقة؛ إذ ليس لديهم، فيما يبدو، ما يملأون به فراغ الاستنكاف الأميركي، سواء بقدراتهم الذاتية، أو بتدخلات أطراف أخرى كالأوروبي مثلا.

غير أن الاستنكاف الأميركي، الذي نحب أن نراه مؤقتا، أي بمساحة الزمن الذي تتطلبه الانتخابات التشريعية والرئاسية المقبلة، لا يعني الجمود عند النقاط التي وصلت إليها العملية السياسية المنهارة.

إذ لا بد من ملء هذا الفراغ بحقائق أمر واقع، بحيث يكون كل طرف شرق أوسطي قد وجد لنفسه جدارا يتكئ عليه بتجميع ما يقدر على تجميعه من المكاسب والمزايا، والذهاب به إلى السوق المحتملة التي قد يفتح فيها الملف الشرق أوسطي من جديد.

وهنا، على افتراض أن زلزالا ما حدث وأوجد فرصة ما لتحريك العملية السياسية، فإن الجميع سيجد نفسه أمام واقع جديد، فيه من الصعوبات أكثر مما فيه من المقومات الإيجابية ومن ستكون له اليد العليا في المساومات المحتملة.. هو صاحب الرصيد الأكبر على الأرض.. ولعل هذا هو بعض محتوى السياسة الإسرائيلية التي يرى صناعها أن خلق الحقائق على الأرض في غياب العمل الأميركي هو أفضل الخيارات واقعية؛ ذلك على عكس ما تدعو إليه قوى أخرى في إسرائيل هي تلك التي ترى أن الوقت الآن هو أفضل الأوقات لطرح مبادرة إسرائيلية لإنقاذ مشروع السلام بدل انتظار أو توقع المفاجآت.

إن ابتعاد دينيس روس ليس ابتعاد موظف عادي مثلما لم يكن يأس عباس مجرد استنتاج شخصي، ولا تشاؤم الملك عبد الله الثاني مجرد محاولة ضغط.. ذلك أن الربيع العربي، الذي أنعش الآمال بتغيير جوهري يخدم سلاما ناجحا ومستقرا في الشرق الأوسط، بدأ يعطي ثماره الغامضة حتى الآن.. فلم يفرز بعدُ البنى الديمقراطية الحديثة ذات الأفق السياسي البراغماتي الواقعي الذي استقطب في البدايات تأييدا أميركيا وعربيا متفائلا.. فهذا الربيع الذي ارتفع منسوب الدم فيه كثيرا في ليبيا، وكثيرا جدا في سوريا ولا أحد يعرف مآل اليمن.. أضحى كابوسا ثقيلا لا تستطيع الصيغة الأميركية - الأوروبية الاطمئنان إلى مساراته وخلاصاته، مثلما أضحى منجم استثمار تحاول إسرائيل الإفادة منه عبر الترويج لصعود مؤشر نفوذ الإسلام السياسي؛ حيث نجحت الثورات. والإسلام السياسي، وإن كان لديه بالتأكيد رغبة بالمهادنة، إلا أنه لا مصلحة له في استعجال الحلول السياسية الرئيسية في المنطقة، وفق القواعد الأميركية - الأوروبية حتى لو جرى تعديل عليها إلى الأفضل، فما بالك والتعديل وفق المؤشرات الأميركية يمضي إلى الأسوأ؟!

عودة إلى حكاية دينيس روس..

صحيح أن الأفراد ليسوا هم المؤثر الحاسم في صنع السياسات، خاصة في دولة عظمى بحجم الولايات المتحدة، تلعب فيها المؤسسات الدور الحاسم المباشر وغير المباشر في تقرير التوجهات والسياسات، إلا أن لكل شخص يحتل موقعا مميزا وفعالا في منظومة العمل والإدارة وصنع السياسات ما يصلح لأن تتخذ استقالته أو حتى تعيينه مؤشرا قويا على الاتجاه الذي تسير عليه السياسات، ليس حيال الشرق الأوسط وحده، وإنما في أي مكان وزمان.

فليحضِّر الشرق أوسطيون أنفسهم لمرحلة أخطر ما فيها هو الفراغ وهلامية الجهود وإغراقها في العموميات.. وليتدبروا أمر مصالحهم بروية.. فأميركا تخلت عن دور حامل الهدايا والوعود أو ما يشبهها، بعد أن أغلقت الأبواب بإحكام أمام كل من يسعى ويفكر بملء فراغ استنكافها حتى لو كان أقرب أصدقائها وحلفائها.

أخال السيد روس غادر الملعب الشرق أوسطي ليس بصورة مؤقتة، بل ربما على نحو نهائي.. وهنيئا لأسرته بعودته إلى البيت.