تكنوقراط في مفترق طرق

TT

قال وليد المعلم، محاولا تحويل دفة النقاش حول مأساة بلده إلى مسار مختلف: «لن تكون سوريا ليبيا أخرى».

وهو محق، إلى حد ما، فالتاريخ لا يكرر نفسه كثيرا، وإذا ما فعل، فإنه يفعل ذلك بصورة هزلية، ويصدق فيه قول ماركس «تحولت قبعة السيد إلى قبعة غبي لابن أخيه».

ولا يبدو أن المعلم، الذي يعمل وزيرا لخارجية بشار منذ عدة سنوات، يدرك أنه يعترف ضمنيا من خلال مقارنته سوريا بليبيا أن بلاده في محنة.

كما لا يحمل اعترافه هذا أية مفاجئة، فقد أصبح نظام الأسد منعزلا بصورة متزايدة. وقد شعر الأوروبيون بالحنق الشديد من نظام الأسد بالفعل. أما بالنسبة للعرب، الذين دائما ما يتأخرون في اتخاذ القرار المناسب، فقد بدأوا في مجاراة أوروبا وتركيا.

لم يتبق لنظام الأسد سوى عدد قليل من المؤيدين الذين تتزعمهم الجمهورية الإسلامية في طهران. ورغم ذلك، فإن الشكوك بدأت تساور الملالي حول إمكانية بقاء الأسد في السلطة. ولأن النظام الخميني قوة انتهازية، فسوف تتخلى عن حلفائها إذا ما بدوا خاسرين دون وازع من ضمير.

في العراق، تخلى الملالي عن جماعة عبد العزيز الحكيم، التي كانت تعد أداة سابقة لهم هناك، ليحل محلهم مقتدى الصدر، الذي كانوا يعدونه أكبر أعدائهم من قبل.

وفي أفغانستان، نأت طهران بنفسها عن عقد تحالف مع الشمال، لتتودد إلى طالبان، فالملالي يطبقون بدقة كتيب الإرشادات الذي يذكر أن الدول ينبغي أن لا يكون لها أصدقاء دائمون أو أعداء دائمون، وإنما ينبغي أن تكون لها مصالح دائمة فقط!

ومن ثم، فإن قيام طهران بفتح «قنوات الاتصال» مع المعارضة السورية ليس بالأمر المفاجئ. وقد تم الاتصال بهم، بعد وقت قصير من اجتماع شخصيات المعارضة بدبلوماسيين روسيين، بناء على طلب من طهران، ولم يمض وقت طويل حتى التقى ممثلو المعارضة بالدبلوماسيين الروس.

ولا تستطيع طهران أن تترك تركيا تحتكر المبادرات الخاصة بسوريا، فقد استثمرت طهران في سوريا 20 مليار دولار، مقارنة باستثمارات تركيا التي بلغت 25 مليار دولار. غير أن مسألة الاستثمار أكثر أهمية، بالنسبة لإيران، وذلك نظرا لأن معظم تلك الاستثمارات تخص فيلق الحرس الثوري الإسلامي. وإذا ما انتهت إيران إلى جانب الطرف الخاسر، أي الطاغية، فسوف يتعرض كثير من أموال فيلق الحرس الثوري للخطر.

وقد حاول أحمدي نجاد، ووزير الخارجية علي أكبر صالحي، النأي بحذر عن دمشق. وهذا الأسبوع، كان الدور على محمد رضا رؤوف، سفير إيران لدى سوريا، الذي دندن حول الفكرة ذاتها بأسلوب مختلف، فقال، وهو مستغرق في التفكير: «إن سوريا بحاجة إلى القيام بإصلاحات عميقة. ومن هذه الناحية، فنحن نضم صوتنا إلى هؤلاء المصرين على التغيير».

وكعادتهم، استخدم آل الأسد ورقة «المقاومة» للترويج للدعم الذي يأملون في الحصول عليه من حزب الله اللبناني وحركة حماس الفلسطينية.

بيد أن أيا من السبعة عشر فرعا التابعة لحزب الله، لا يمكنه التصرف بشكل مستقل في أي قضية رئيسية.. فحزب الله عبارة عن منظمة شكلتها طهران وقامت بتمويلها والسيطرة عليها، تماما كما قامت موسكو بإدارة الشيوعية الأممية (الكومنترن) في الثلاثينات من القرن الماضي. ومن ثم، فإن حسن نصر الله، زعيم الفرع اللبناني، موظف تابع للحكومة الإيرانية، وإذا ما أمرته طهران بالإطاحة بنظام الأسد، فسوف يقوم بذلك دون تردد.

أما بالنسبة لحركة حماس، فإن قائدها، خالد مشعل، يبحث عن منفى جديد بالفعل.

إن التساؤل الذي يجب أن يثيره المعلم ينبغي أن لا يدور حول ما إذا كانت سوريا ستصبح ليبيا أخرى أم لا، بل عليه أن يتأمل: إلى أين ستصل سوريا بعد عام من الآن؟

حتى إذا ما افترضنا ذلك، فإن استمرار سياسته في الحكم من خلال المذابح التي يرتكبها، تعني أن يفرض هدوء المقابر؛ فقد يحقق فوزا عظيما في هذا الأمر.

وكي تتمكن من النجاة والازدهار، تحتاج سوريا، كغيرها من الدول، إلى أن تتلاءم مع موقعها الجيوسياسي، لكن ذلك قد يصبح مستحيلا في ظل نظام الأسد.

إن أحد العناصر الأساسية في موقع سوريا الجيوسياسي هو البحر المتوسط، وخلال حكم الأسد، انعزلت سوريا تماما عن تلك الناحية.. حتى اليونان وصقلية اللتان كانتا تربطهما علاقات وثيقة بسوريا، تشعران بالتردد الآن إزاء التعامل مع الأسد، حتى وإن كان ذلك بشكل غير مباشر.

وهناك عنصر آخر بشأن الموقع الجيوسياسي لسوريا؛ وهو بلاد الشام، أي شبه الجزيرة التي تقع بين البحر الأحمر والبحر المتوسط، والتي انعزلت سوريا عنها أيضا.

وكما ذكرنا، فقد أخذت تركيا بزمام المبادرة في حشد المجتمع الدولي ضد الطاغية السوري، ولديها علاقات بالفعل مع المجلس الوطني السوري، كما استضافت مؤتمرات للمعارضة السورية، وتقوم تركيا بعمل اتصالات مع الأمم المتحدة لتوفير ملاذ آمن للسوريين الفارين من المذابح التي يرتكبها نظام الأسد.

وباتت الأردن، على لسان ملكها، أول دولة عربية تدعو الأسد إلى التنحي علانية.. كذلك تتخذ الأردن أولى خطواتها لتوفير ملاذ آمن للسوريين في منطقة حوران الحدودية.

وقد عبر كثير من الرموز السياسية، في لبنان، الذين شجعتهم تصريحات وليد جنبلاط الأخيرة، عن مخاوفهم بشأن سوريا، حتى رئيس الوزراء، نجيب ميقاتي، الذي يعرف بأنه شريك أعمال أسرة الأسد، عبر عن «تحفظاته» بشأن «سياسة القبضة الحديدية» في دمشق، وذلك خلال محادثات مع دبلوماسيين غربيين.

من جانبها، بدأت بغداد في التعبير عن مخاوفها حول امتداد النزاع السوري إلى الأراضي العراقية؛ إذ لا يشعر كثير من القادة العراقيين بالشفقة على الطاغية الذي فعل ما بوسعه لإثارة القلاقل في العراق على مدار سنوات.. كذلك، من غير المحتمل أن يشعروا بالشفقة تجاهه حتى إذا ما تمكن من البقاء من خلال ارتكاب المذابح وأصبح منبوذا.

لقد انعزلت سوريا عن العالم العربي، عندما اتخذت الجامعة العربية، التي اتسمت بالضعف في كثير من الأحيان، موقفا غير مسبوق في دعم الثورة السورية.

قد يخسر الأسد دعم إسرائيل أيضا؛ فمنذ عام 1970 وإسرائيل تعتبر أن النظام السوري، الذي تحكمه أقلية نصيرية، عائق يحول دون وصول الإسلاميين للسلطة عبر التودد إلى الأغلبية السنية. كان الاعتقاد هو أن إسرائيل أكثر أمنا عندما تحكم أقلية الدول المجاورة لها، لكن هذا الاعتقاد دائما ما اتسم بالحماقة.. وهذا الاعتقاد اليوم بعيد تماما عن الواقع، فقد تغير العالم، ولم تعد الانتفاضة السورية ظاهرة طائفية، ولن تكون لدى إسرائيل أي مصالح في الرهان على الجواد الخاسر.

إن الطغيان في سوريا يوشك على الانتهاء، لكن القضية الحقيقية الآن هي كيفية تنسيق ذلك لتفادي التكلفة في الأرواح البشرية.. هذا هو السؤال الذي يجب أن يفكر فيه المعلم وأمثاله من التكنوقراط.