ضد التيار: الثورة في مجتمع متخلف

TT

واحدة من عورات الثقافة العربية المعاصرة هي فكرة أن المثقف موقف. المثقف تعريفا يتمثل في القدرة على إضافة معارف جديدة إلى القديم، بمعنى التراكم المعرفي أو نقد القديم بهدف بناء عمران معرفي جديد.

كل هذا يتطلب القراءة والعمل والتنقيب عن المعرفة، أما حالة المثقف الموقف فهي أقرب ما تكون إلى حالة بلطجة وإعلان عن موقف من دون رغبة في إثراء معرفة الآخرين، «أنا شايف كده»، ولكن بناء على ماذا؟ هذا ليس مهما.

ظاهرة المثقف الموقف هي ظاهرة شمولية بامتياز، يكون فيها المثقف ضمن كتيبة مواجهة مع أعداء حقيقيين أو متخيلين يصطفون على جوانب الجبهة، يرصون الكلام رصا، دفاعا عن موقف الصديق وتشويه موقف العدو، وهنا تختفي أو تنتفي فكرة المعرفة. ترى ما معنى هذا الكلام النظري الواسع بالنسبة لواقع ثوراتنا أو تحولات مجتمعاتنا؟

بداية، ما أسهل أن تتخذ موقفا مع الثورة في بلد ما، طالما أن الموقف ليس مكلفا لك، بل يعظم من ظهورك التلفزيوني، لكن نقد الثورات أو الكشف عن عوارها وعوراتها أمر مكلف يفضل كثير من المثقفين العرب عدم الاقتراب منه.

ودعوني أبدأ بثورة يكون الحديث فيها أقل تكلفة وهي ثورة اليمن. ترى ما الذي يمكن أن تنتجه ثورة اليمن بما هو أفضل من نظام علي عبد الله صالح، ما هي المنظومة القيمية الجديدة التي يطمح الثوار إلى غرسها في المجتمع والتي يمكن أن تعتبر أفضل مما هو قائم؟ وحتى لا أفهم خطأ، أعيد صياغة السؤال: ترى ما مستقبل الثورة في مجتمع مثل المجتمع اليمني؟ هل الثورة سوف تنتج مجتمعا مختلفا ومنظومة قيمية مختلفة يلتزم بها المجتمع الجديد، أم أنه الفيلم القديم ذاته بأبطال جدد، والمسرحية ذاتها والنص ذاته بممثلين جدد؟ وإن كان الحال كذلك، فهل يمكن أن يسمى ثورة؟ وهل يستحق تغيير الممثلين كل هذا الدم الذي سال ويسيل على الأرض في اليمن وفي سوريا وفي ليبيا وحتى في تونس؟

نتحدث عن الثورات العربية وكأننا نتحدث عن ثورات أوروبا الشرقية، والحقيقة أن المقارنة مهمة بين الربيع العربي وبين ثورات أوروبا الشرقية. ولكن هناك فرق بين الثورات في المجتمعات ذات الثقافات المتخلفة وبين الثورات الأوروبية التي حدثت في مجتمعات تقترب من الحداثة. ففي مجتمعات أوروبا الشرقية كانت ولا تزال المرأة مكونا أساسيا قبل الثورة وفي الثورة وبعد الثورة. أما ثوراتنا ففيها - وبمستويات مختلفة - إقصاء تام للمرأة يتطلب - بعد سنين - ثورة أخرى من أجل حقوقها. هناك نموذج «إسلامي سياسي» واحد للمرأة في الثورات العربية، وهو النموذج الخاضع لوصاية الرجل والذي ينتقص من فكرة المواطنة والمساواة التي من المفترض أن الثورات تقوم لأجلها.

وليست هذه هي القضية الوحيدة وإنما هي مجرد مثال. فكيف بمثقف ينشد التغيير، أن ينشده للرجل ولا ينشده للمرأة؟ ينشده في المجال السياسي ولا ينشده في الثقافي والاجتماعي؟ ولكن المثقف الموقف لا يرى تناقضا في ذلك، فهو ليس معنيا بالمعرفة أو التنوير، هو فقط معني بالموقف.

بالطبع لن يزايد عليّ أحد في موضوع الثورة؛ فقد كنت في قلب الثورة، وكان لي موقف أساسه المعرفة وليس البحث عن البطولة ضد النظام القديم، ولذلك انسحبت من المشهد بعد الثورة مباشرة، وأنا الآن لي موقف أساسه المعرفة أيضا ضد النظام الجديد القديم.

ولكن موقفي في ذاته يجب ألا يعني الكثير، ولكن نوعية المعرفة وإلقاء الضوء على بعض سلبيات الثورة في مصر هو الذي يحتاج إلى نقاش وليس الموقف. الثورة في مصر انتهت إلى القطار القديم ذاته يجره جرار جديد، كما كتبت بالسابق في مقال بعنوان «حاسب حيغيروا الجرار».

الفكرة الأساسية أننا كنا أمام ثورة تنشد قيما جديدة تضيف بها إلى القيم العالمية الخاصة بالكرامة الإنسانية، ولكنها أعادت إنتاج مجتمع الإقطاع السائب في مصر بممثلين جدد، أي ذات الفيلم بأبطال جدد.. ولدي الجرأة أن أقول إنه وكما في المسرحيات، المسرحية الأصلية أفضل من مسرحية جديدة بممثلين جدد يؤدون النص القديم ذاته.

ولكننا في عالم المثقف الموقف الذي لا تقدم فيه معرفة جديدة، المثقف اليوم مشتق من التصفيق للثوار سواء كانوا على حق أم على خطأ. جماعة الموقف لا يتوقفون عند المعرفة لأنها ليست مهمة ولا تعظم من فرص الظهور التلفزيوني، التلفزيون يحب المثقف الموقف. التلفزيون يريد.. وليس الشعب يريد.. هذا هو الشعار.

الثورات تحدث في العقل أولا، الثورات هي القدرة على تغيير المنظومة القيمية لمجتمع ما، الثورات هي تغيير «السوفت وير» الذي يعمل به كومبيوتر الوطن وليس تغيير الصاج الذي يغطي الموتور من الخارج، فمن دون تغيير «السوفت وير»، لا ثورة هناك.

تغيير «السوفت وير» أو تحسين أدائه هو المطلوب لا أن نعود إلى الوراء، كما يريد جماعة الإسلام السياسي، فهذا ليس عملا ثوريا ولكنه عمل من أعمال الردة، وربما هنا يتطلب الأمر، لأن المعرفة تتطلب، موقفا، ولكنه موقف صعب ومثقفونا يفضلون المواقف السهلة.