«العلاج بالصدمة»: بداية طغيان جديد تقديس الثورات

TT

من مآخذ «الثوريين» على الأنظمة التي ثاروا عليها، أنها لا تسمح بالنقد، ولا تحتمله، فهل وقع الثوريون ومن يؤيدهم في ذات الخطأ؟ من دون تعميم نقول: هناك من هؤلاء من يمارس ذات الخطيئة. فما إن تدخل في مناقشة مع هذا أو ذاك من الناس «المنبهرين بالثورات»، وما إن تمس هذه الثورات والقائمين عليها بنقد ما حتى تعلو أصوات الاعتراض والاحتجاج، وحتى تنهال الأسئلة التي يحسبونها محرجة للناقد: هل أنت من مؤيدي الاستبداد والطغيان؟! وهو سؤال غريب عجيب يدل على التوتر، وعلى «السكرة» بما جرى، وإلا فليس هناك امرؤ استقر توحيد الله - عز وجل - في قلبه، يمكن أن يؤيد الطغيان، لأن الطغيان والتوحيد نقيضان لا يجتمعان قط. ولقد رأينا فرعون لا يزال يتمادى في الطغيان حتى نفى أن يكون للناس إله غيره: «ما علمت لكم من إله غيري».. وكل طاغية مستبد فيه عاهة من طغيان فرعون، في هذه الصورة أو تلك.. ثم ليس كل من ينتقد الثورات العربية مؤيدا - بالضرورة - للأنظمة الاستبدادية التي هلكت، فهذه مجادلة «غير ذات موضوع»، كما يقول الفلاسفة .

نحن فرحون بزوال طاغية ليبيا، ولسنا في حاجة إلى أن نقسم على ذلك حيث إنها فرحة نابعة من الإيمان بالله - جل شأنه - المشكور المحمود على هلاك الطغاة الظالمين: «فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين».. ولكن في طريقة مقتل القذافي ما يتوجب نقده، دون مجاملة أحد مهما كان، فقد مُثّل بجثته.. ومعلوم من دين الإسلام ومنهجه الأخلاقي أن «التمثيل» محرم، ولو بجثة كافر، فكيف سمح العهد الثوري الجديد لنفسه بأن يبدأ بداية غير إسلامية وغير أخلاقية.. نعم.. إن الطاغية القذافي كان يفجر في الخصومة ويمارس التمثيل بالجثث. ولكن هل انتصر وهو ميت؟ بمعنى هل أصبح القذافي «قدوة» للثوار الذين أطاحوا به وقتلوه؟ إن هذا الاقتداء هو أول الوهن وأول المشي الأعوج.. ومما هو أغرب من ذلك، أن خطيئة التمثيل هذه لم تنتقد بوضوح وعدالة ومسارعة، كما ينبغي أن يكون، لا من الثوار أنفسهم، ولا من المؤيدين لهم من خارج ليبيا، ولا سيما أولئك الذين يحملون شعار الإسلام.. فماذا وراء هذا الموقف الناكص عن حق النقد والجهر بإدانة التمثيل بالجثة؟:

1) هل وراءه: عدم التصديق بأن طريقة مقتل القذافي كانت غامضة ومشحونة بالريب والألغاز؟.. إن عدم التصديق هذا مدفوع - مثلا - بشهادة شخصية بارزة من شخصيات المجلس الانتقالي الليبي وهو محمود جبريل فقد قال: «إن أطرافا خارجية وراء اغتيال الثوار للعقيد معمر القذافي بمجرد اعتقاله، بهدف دفن العديد من الأسرار معه» (ولقد وكدت صحف فرنسية هذه المعلومات قبل محمود جبريل).. ثم قال في حوار مع قناة «سي إن إن»: «إن لديه قناعة بأن القذافي قتل بناء على أوامر من جهة خارجية. فقد تردد الثوار في اغتياله منذ اللحظة الأولى التي تم فيها اعتقاله، ولو كان الثوار يريدون قتله لفعلوا ذلك منذ اللحظة الأولى، ولكن أن يتم اعتقاله والاحتفاظ به لفترة، ويصفعوه على وجهه، وفجأة يقتلوه، فذلك دليل على أن هناك أمرا تلقاه الثوار بقتله».. أما التمثيل بالجثة، فإن في الصور المرعبة دليلا ماديا على ذلك.

2) هل وراءه مقولة «المعاملة بالمثل»؟ من المحزن أن يتفوه أناس بهذه التعلة. فالمعاملة بالمثل ليست مطلقة، ولا تصرفا سبهللا، بل هي مقيدة ومضبوطة بمعايير أخلاقية أعلى وأشمل وأقوى إلزاما. مثلا لو أن شخصا فاجرا زنا بأخت شخص آخر، فليس يحل للآخر هذا أن يقترف ذات الجرم مع أخت الفاجر البادئ. والقيد الصارم هنا: أن الزنا محرم بإطلاق، ولن تزول الحرمة بزعم المعاملة بالمثل، ذلك أن هذه «المثلية» تقوض أسس الأخلاق ومعاييرها التي جعلها نبي الإسلام غاية وحكمة بعثته فقال: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق».. وبتقويض معايير الأخلاق تتقوض - بداهة - موازين العدالة القضائية والاجتماعية، فيمسي الأمر - من ثم - غابة من الوحوش الضارية، الغلبة فيها للأقدر على الصيد والقضم والنهش، وهي غابة مبتوتة الصلة بالقيم الإنسانية والإسلامية.

3) هل وراء الموقف الناكص عن واجب النقد: إرادة «تشويه» الثورة والثوار؟ هذا احتمال وارد. ولكن كيف يسهم الثوار في تشويه صورتهم، وتقبيح وجههم بأيديهم؟!

مهما يكن من شأن، فإن الكف عن نقد الثوار الذين ارتكبوا خطيئة التمثيل بالجثث له دافع غير نبيل وغير أخلاقي وغير عقلاني وهو «تقديس» الثورات مهما فعلت، ومهما جنت يداها.. وهذه بداية لطغيان جديد، في صورة جديدة؟

ومن صور تقديس الثورات «تراجع» ملحوظ عن النداء بتطبيق الشريعة، وهو النداء الذي قامت لأجله حركات إسلامية عديدة، منذ عقود مديدة.

ونعجل باحتراز واجب فنقول: لسنا من المغامرين الذين يطالبون بتطبيق الشريعة الإسلامية كلها وفورا، فمنهج الإسلام لا يقول بذلك ثم إن للواقع الراهن اعتباره في هذا الشأن.. إنما المقصود هو ما وراء التراجع عن هذه المطالب من قبل قادة الحركات الإسلامية.. وما وراء سكوت جماهيرهم عن هذا التراجع.

أ) إن وراء هذا التراجع مِن قِبَل القيادات ظنا عريضا بأن الغرب سيقبلهم ويرحب بهم إذا هم مارسوا هذا التراجع. فهل تغير الهدف فجأة، من المناداة بتطبيق الشريعة إلى استرضاء الغرب.. يقال إن هذا مجرد «تكتيك» مرحلي، ويستدعون النموذج التركي للاستشهاد به. وما هو بنموذج صالح للاستشهاد، لا من الناحية المنهجية، ولا من الناحية الأخلاقية. فقد كان الظن أن حزب العدالة والتنمية التركي «يتكتك» فعلا ابتغاء الوصول إلى أهدافه الاستراتيجية العليا «!!»، بيد أن كلام أردوغان في القاهرة عن التبشير بالعلمانية، وأنها لا تتعارض مع الإسلام، أبطل فكرة «التكتيك» هذه من حيث أن العلمانية خيار ومصير بمقتضى ذلك الموقف، لا مجرد مرحلة عابرة سيجري تجاوزها في يوم ما. فهل الذين يقلدون النموذج التركي يفهمون التكتيك على هذا النحو؟ بمعنى أن استرضاء الغرب بالتراجع عن تطبيق الشريعة إنما هو خيار ومصير، لا مجرد مرحلة زمنية سيجري تجاوزها في يوم ما؟

ب) إن الرضا بالتراجع عن تطبيق الشريعة - بالنسبة للقواعد الجماهيرية - يقع في دائرة «تقديس» الثورات، من زاوية أن الجهر بنقد التراجع يجرح شرف الثورات أو يلوث طهرها!!

إن البديل لا يزال يتعثر في خطواته، ويتعسر في ولادته.

وليس أمام الناس إلا:

1) العلم بمنهج الإسلام علما صحيحا «دون تأويل» فاسد يحصن الناس ضد استغلال الإسلام والتلاعب به.

2) الإيمان بالحق كله. وهذا أمر ممكن. مثال ذلك: أن كل مسلم يستطيع الإيمان بأركان الإسلام الستة. ولا يقبل من مسلم أن يقول أستطيع أن أومن بخمسة منها فقط. أما الإيمان بالدار الآخرة فلا أستطيعه!

3) أن يطبق المسلمون من الإسلام ما يستطيعون، في ضوء الإيمان بالحق كله. أما التلاعب بشعارات الإسلام من قبل القيادات، والسكوت عن هذا التلاعب من قبل القواعد، فهذه بداية الطغيان من الأوائل، وبداية قبول الطغيان من الأواخر.