الانتخابات كـ«فاترينة» متجر خال من البضائع

TT

في لقائه مع الـ«بي بي سي» (ولقاء آخر غير مبث مع الصحافيين)، شخص العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني أحد أهم أسباب تدهور صحة الديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط والشمال الأفريقي، والتي تدفع المراقبين – وكاتب السطور أحدهم – إلى عدم التفاؤل بمدى قدرة بلدان المنطقة على تأسيس دول مدنية تمارس شعوبها الحد الأدنى من الحرية، كالمساواة أمام القانون وتغيير الحكومة بالاقتراع بدلا من الانقلاب العسكري، أو تدخل عزرائيل، كما هو الحال في 12 بلدا من أعضاء ميثاق الجامعة العربية منذ 1952.

وبعكس الدول الملكية التي تتمتع بشرعية تاريخية واستقرار يؤهلها للانتقال التدريجي السلمي إلى ديمقراطية الملكية الدستورية؛ فإن جمهوريات الانقلابات العسكرية غير الشرعية صفت مؤسسات الدولة الثابتة ومزجتها بجهاز الحكم التنفيذي، وحولت البرلمان من مشرع للقانون إلى خاتم مطاطي للقرارات الجمهورية (أو قرارات مجلس قيادة الثورة) غير الدستورية.

العاهل الأردني، الذي يرى التعديلات الدستورية (42 تعديلا حتى الآن) ليست الغاية بل «البداية لأن الديمقراطية دائمة التطور والتعديل حسب حاجات الأمة»، لم يخف طموحه في رؤية أحزاب يمين ويسار ووسط في الأردن «كوضع طبيعي لأي نظام ديمقراطي».

في لقاءاته مع المجموعات والأحزاب المطالبة بالإصلاح، يستمع الملك إلى مقترحاتها، ومعظمها شعارات سياسية كتقليل صلاحيات القصر وتعديل الدستور؛ ثم يوجه أسئلة محددة عن برنامج الوفد أو المجموعة المجتمع معها لكيفية علاج ما انتقدوه وتلبية الحاجات العملية للناس الذين يدعون تمثيلهم.. أسئلة عن خطتهم للاستثمار الاقتصادي، وسعر الفائدة الذي يرونه مناسبا؛ وبرنامج الصحة؛ وهل يزيدون الضرائب لدعم الخدمات أم ينقصونها؛ وإصلاح نظام التعليم، ومصادر الميزانية اللازمة.

عندها يسود القاعة الصمت، وينظر الإصلاحيون المتحمسون إليه بوجه مسطح الملامح وكأنهم سمعوا الأسئلة بلغة قبيلة لم يكتشف العالم وجودها بعد. فإما أن هذه الجماعات لا تمثل أحدا من الجماهير، ولم تلتق بهم لتعرف مطالبهم الحقيقية كما تدعي؛ أو أن نظام تشغيل العقل السياسي العربي المعاصر على ما يبدو لم يبرمج بعد بأسلوب التفكير الطبيعي لناخب يقارن بين برامج الأحزاب بحثا عن الأقرب بينها لتلبية الأولويات على قائمته.

لا يوجد حزب في أكثر ديمقراطيات الدنيا تقدما باستطاعته تلبية قائمة المواطن كاملة. وهذا ما قصده الملك عبد الله الثاني بضرورة تطوير أحزاب يمين ويسار ووسط كوضع طبيعي للبلاد الناضجة.

إذا كان الناخب موظفا محدود الدخل، وأولاده في المدارس، ستكون أهم مطالبه خفض نفقات التعليم، وتكلفة المواصلات العامة، ودعم السلع الأساسية (ليزيد حصة المتبقي من الراتب للإنفاق disposable income. وبالتالي يصوت لحزب اشتراكي يتضمن برنامجه هذه الوعود. أما صاحب العمل الذي يوظف عاملين فيرى خفض سعر فائدة الإقراض البنكية وتعديل قوانين العمل كأهم أولوياته، فيصوت لحزب محافظ يعد بتخفيض أسعار الفائدة. أما سائق التاكسي أو صاحب شركة شاحنات فلن يصوتا لحزب الخضر مثلا الذي يريد زيادة الرسوم على وقود السيارات تحت شعار حماية البيئة، بل لحزب وسطي يروج للاستثمار.

فقط عندما يسمع زعيم جاد في الإصلاح، كالعاهل الأردني، إجابة مشابهة للفقرة أعلاه، مما يعكس تفهم الحزب أو المجموعة السياسية لدور الأحزاب وواجبها تجاه الناخب، يدرك أن هذه الأحزاب جادة في تمثيلها للجماهير الشعبية، وأنها درست حاجاتها ورسمت برنامجا انتخابيا يصبح (عند فوزها في الانتخابات) برنامج الحكومة الذي تطرحه على البرلمان لإصدار القوانين واللوائح المطلوبة لتنفيذه.

الأحزاب الجديدة أو التي عارضت الديكتاتوريات الساقطة عليها إثبات حقيقة إيمانها بالديمقراطية، وبأن انتخابها يعني توظيفها كخادم للناخب بمقتضى عقد قد يجدده في الانتخابات التالية أو يفصلها لتقصيرها. والبرهان إعدادها برنامجا شاملا للحكومة طوال مدة العقد التي يحددها الدستور. هذا بدوره يتطلب معرفة الأحزاب التي ستخوض الانتخابات بأدق تفاصيل سياسة الحكومة الحالية وميزانيتها العامة وميزانية كل وزارة لتعد برامج وميزانيات بديلة أو معدلة.

ما اكتشفه العاهل الأردني بحديثه للجماعات المطالبة بالإصلاح من غياب برنامج تشغيل العقل بأساسيات العمل الديمقراطي، لا يقتصر على الأردن الذي لم يشهد تجربة الحكومة البرلمانية. فلا الانتخابات البرلمانية التي أجرتها تونس أو المتوقعة في مصر بعد 9 أيام نقلة للديمقراطية الحقيقية، بل هي «فاترينة» متجر خال من البضائع، أبوابه مغلقة أمام الزبائن.

فالدساتير التي تحدد نظام الحكم وصلاحيات رئيس الوزراء التنفيذية ومدة بقاء الحكومة وعلاقتها بالدولة (التي لم تتحدد ملامحها)، لم تكتب بعد. وليست لدى الأحزاب المصرية أو التونسية برامج متكاملة بميزانيات محددة.

البلدان التي حكمتها ديكتاتوريات عسكرية (وإن ارتدى حكامها الملابس المدنية) لم تكن وزاراتها تعلن ميزانياتها، لأنها لم تتعرض للمساءلة في البرلمان؛ أما البرلمانية كالتي عرفتها مصر (1922 – 1954) فذبحها العسكر في أوج نشاطها، ووأدوا وليدها لمنع إنجاب ذرية برلمانية جديدة.

من المطبوعات القديمة في حوزتي دليل مصر السنوي لعام 1932 بالإنجليزية، وكان يطبع بست لغات وتوزعه مكاتب السياحة والسفارات المصرية حول العالم. وهو دليل يشمل جميع المعلومات التي يحتاجها زائر مصر للسياحة أو الاستثمار أو الاستشفاء أو المعاملات التجارية أو أي صحافي: عدد السكان، ونسبة المتعلمين، وميزانية الحكومة للعامين السابق والحالي والمتوقعة للقادم؛ وأسماء المصالح ومديريها، والوزراء ووكلاء الوزارة وأرقام التليفونات، والعناوين وميزانية كل وزارة، وأعضاء البرلمان بمجلسيه وتوزيعهم على الأحزاب، وأسماء الصحف والمجلات المصرية (صدرت بالعربية والفرنسية والإنجليزية واليونانية والإيطالية والتركية) وعناوينها وتليفوناتها وأرقام وتوزيعها.

اختفى تقليد طبع الدليل السنوي الذي كان مستمرا منذ 1924، بعد إعلان الجمهورية عام 1953 (من دون تصويت برلماني) على يد انقلاب 23 يوليو (تموز) غير الشرعي، وامتنع الضباط الأحرار عن نشر الميزانيات. وانتهى تقليد محاسبة وزراء الحكومة ورئيسها أمام البرلمان الذي تحول إلى مجلس الأمة، فمجلس الشعب أصبح تحت يافطة 50 في المائة عمالا وفلاحين و50 في المائة فئات أخرى، وفي الحقيقة جلس تحت القبة 50 في المائة «سئيفة» (مصفقين بالمصرية) و50 في المائة «هتيفة» (مهللين استحسانا) للزعيم الأوحد على إنجازاته التاريخية (كسب زعماء العالم في الميكروفون وإهدار ثروة الأمة على جماعات إرهابية ومهرجانات الوعيد بإلقاء العدو في البحر ثم تولية الأدبار في المواجهة العسكرية معه).

وحتى تتعرف الجماعات المطالبة بالإصلاح (ناهيك عن مطالبتها بتولي الحكم) على الحاجات الحقيقية لمن تدعي تمثيلهم وتقدم برامج محددة بأرقام وميزانيات معروف مصدرها كخطة عمل حكومة تنفيذية، فلن يأخذها الناخب مأخذ الجد وسيكون التصويت مضيعة لوقته؛ لأن الأجندة الوحيدة التي تعمل بها هي الوصول للحكم عبر الشعارات، أو عبر التسربل بعباءة الدين، وبعد انتخابها «يبقى يحلها ربنا».