شبح «الإخوان» يخيم على العرب!

TT

كان الزميل مشاري الذايدي قد تحدث هنا في هذه الجريدة بالذات عن الربيع الإخواني بدل الربيع العربي. وأعتقد أنه مصيب إلى حد كبير. فبعد انتصار «الإخوان» في تونس فإنهم قد ينتصرون أيضا في مصر، وحتما في ليبيا، وربما في أماكن أخرى لاحقا. لماذا كل هذه الانتصارات بعد ثورات لم يشعلوها هم وإنما دشنها شباب أقرب إلى الحداثة والتحديث؟ كيف قطفوا ثمار الربيع العربي يانعة جنية؟ كيف نزلت عليهم هذه الهدية من السماء، هذه المفاجأة الإلهية؟ كان الفيلسوف سبينوزا يقول: «لا يتعلق الأمر بأن نضحك أو نبكي وإنما أن نفهم. وكان الفيلسوف هيغل يقول: كل ما هو واقعي عقلاني»، وبالتالي فحدث كبير كهذا لا يمكن أن يكون اعتباطيا أو عبثيا، ولا بد أن هناك عوامل موضوعية تقف وراءه، فلنحاول أن نستجليها.

أول انتخابات حرة في بلد الانتفاضة الأولى تونس أعطت الأغلبية لـ«الإخوان» الذين دعوا حركتهم باسم «النهضة». لكن هل قادة «النهضة» اليوم هم أنفسهم قادة حركة التوحيد الإسلامي بالأمس؟ ألم يتغيروا طيلة ثلاثين عاما من النضال والمعاناة والاحتكاك بالواقع المر والعيش في البلاد الديمقراطية الأوروبية؟ ألم ينظروا حولهم ويروا كيف يمارس الحكم الديمقراطي في إنجلترا وفرنسا وألمانيا إلخ؟ هل يعقل أنهم لم يستفيدوا أي شيء من تجاربهم واحتكاكاتهم؟

في ما يخص الحالة التونسية، الجميع متفائلون نسبيا. وهذا لا يعني أن حركتهم لم تكن متزمتة بل وإرهابية في الثمانينات من القرن الماضي.. لكنهم تغيروا وتطوروا وتثقفوا.. من منا لم يتغير ويتجدد بعد هجرته إلى البلدان الأوروبية المتقدمة والعيش فيها ردحا من الزمن؟ وبالتالي فمحاربة التيارات الإخوانية في الماضي بما فيها الجماعة التونسية كانت مبررة ومشروعة لسبب بسيط هو أنها كانت متعصبة ومعادية للديمقراطية ولروح الأزمنة الحديثة كلها. ولكن لماذا تتم محاربتهم الآن إذا كانوا قد تغيروا واعتنقوا القيم الحديثة واعترفوا بالتعددية وحلفوا بأغلظ الأيمان على أنهم تخلوا عن العنف وانتهجوا الخط الديمقراطي مذهبا والدولة المدنية هدفا؟ إن المحنة الصراعية التي عاشها الإخوان العرب والليبراليون العرب ضد بعضهم بعضا طيلة السنوات الخمسين الماضية كانت مفيدة لكلا الطرفين على الرغم من كل الاغتيالات والمجازر التي ارتكبت من هذا الطرف أو ذاك.

الإنسان «لا يتعلم إلا من كيسه» كما يقول المثل العامي.. وينبغي العلم بأن حركة الإخوان المسلمين كانت قد سحقت في الماضي من قبل الحركة القومية العربية والآيديولوجيا الاشتراكية والعالم ثالثية المضادة للإمبريالية والاستعمار. واعتُبر «الإخوان» آنذاك بمثابة طابور خامس مرتبط بالرجعية العربية والغرب. والآن ينتقم التاريخ لنفسه إذ يعود «الإخوان» إلى الساحة بكل هذه القوة والعنفوان. وذلك بعد أن فقدت الآيديولوجيا الحداثية والقومية والاشتراكية مصداقيتها ولم تعد تقنع أحدا بسبب ديكتاتورية الأنظمة وفسادها والتناقض الصارخ بين أقوالها وأفعالها. انظر إلى الحالة المزرية للأحزاب القومية العربية من ناصرية وبعثية وكذلك إلى الأحزاب الماركسية أو الشيوعية. هي الأخرى فقدت معظم مصداقيتها بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وجدار برلين وتبني دول أوروبا الشرقية للنموذج الديمقراطي الغربي. وبالتالي فلمن سيصوت الناخب العربي أو المسلم في مثل هذا الجو؟ «لم يبق في الميدان إلا حديدان» أي التنظيمات الدينية. لم يبق له من خيار إلا أن يصوت الشخص للآيديولوجيا الأكثر انغراسا في تاريخه وهويته العميقة والأكثر قربا من قناعاته وعقائده الإيمانية الراسخة. لهذا السبب تربح التنظيمات الإخوانية الانتخابات في كل مكان، مثلما ربحتها التنظيمات الشيعية في إيران أو العراق.. إلخ. إنه لمن المعيب والمخجل أن يفاجأ المثقف العربي الحديث بمثل هذا الوضع. لماذا أقول ذلك؟ لأن هذا التفاجؤ دليل على مدى جهله بالواقع العربي وبالثقل التاريخي للتراث الديني الكبير.

لقد كان من السذاجة الاعتقاد بأن الشباب التحديثيين الذين قاموا بالثورة في تونس ومصر على الأقل هم الذين سيقطفون ثمرتها. فالوقائع تثبت أن الإسلاميين هم الأكثر رسوخا في الأرض والأكثر تغلغلا في الطبقات الشعبية. كما أنهم يحتمون بالهيبة الإلهية التي تطمئن الناس وتسحق الليبراليين سحقا حتى قبل أن يفتحوا فمهم في أي مناظرة تلفزيونية.. يكفي أن يفتتح ممثل «الإخوان» الأصوليين كلامه بعبارة «بسم الله الرحمن الرحيم» حتى يغلبك فورا. أما أنت فلا تفتتح كلامك بها عادة خشية أن يقال عنك إنك متخلف أو رجعي!.. إنهم يستخدمون نفس المعجم اللفظي الديني الذي يفهمه عامة الشعب ويقدسونه منذ مئات السنين. كما أنهم قدموا الخدمات الاجتماعية والاقتصادية لهذه الطبقات الشعبية الفقيرة بفضل الأموال الغزيرة التي انهالت عليهم من بعض الدول. فهل دعم الغرب الأحزاب العلمانية التونسية بفلس واحد؟ هل نعرف نحن المتبجحين بالليبرالية والعلمانية من هو الشعب في أعماقه التاريخية؟ هل ننزل إلى مستواه أو «نتلوث» به؟ إننا نتعالى عليه ونتلهى باستعراض نظريات فلسفية عويصة لا نفهمها نحن بالذات!

أبالغ قليلا لتوضيح الصورة وعلى طريقة جلد الذات.. لقد عجز «الإخوان» العرب طيلة سنوات وسنوات عن التوصل إلى السلطة بواسطة العنف والإرهاب والاغتيالات، فإذا بها تسقط في أحضانهم من تلقاء ذاتها عن طريق صناديق الاقتراع!.. ألن يصبحوا ديمقراطيين بعد ذلك؟ ألن يعشقوا الديمقراطية عشقا ويهيموا بها غراما؟ ولكن ماذا لو أن صناديق الاقتراع سلبتهم غدا ما أعطتهم اليوم؟ ألن يكفروا بالديمقراطية ويشنوا عليها أبشع الحملات ويتذكروا أنها من اختراع غربي شيطاني؟ ذلك أن الديمقراطية سلاح ذو حدين: أحيانا لك وأحيانا عليك. وما أصعب مفارقة السلطة بعد أن تكون قد ذقت طعمها!

سوف نرى ماذا سيحصل في الانتخابات اللاحقة إذا ما خسروها. سوف نرى ما إذا كانوا قد أصبحوا ديمقراطيين حقيقيين يقبلون بالتناوب على السلطة، أم أنهم سيلجأون لأساليب التهديد العلني أو المبطن لإبقائها في أيديهم. في كل الأحوال لا ينبغي أن يهيمنوا كليا على المسرح السياسي كما حصل في إيران. هذا خطر كبير ينبغي تحاشيه بأي شكل لأنه قد يؤدي إلى التوتاليتارية اللاهوتية التي تحل محل التوتاليتارية «العلمانية» للأنظمة المتهاوية. ماذا سيحصل لفكرة الحاكمية أو لنظرية ولاية الفقيه بعد كل هذه التجارب الديمقراطية المدهشة؟ ألن يتخلى عنهما الإسلاميون ويقبلوا بالفلسفة السياسية الحديثة التي تقول بأن الشعب بتصويته الحر هو مصدر السيادة العليا والمشروعية لأي سلطة أو حكم؟ هناك انعكاسات نظرية كبيرة تترتب على هذه التجارب الانتخابية والديمقراطية. فالواقع العملي يغير الفكر أيضا، وليس فقط الفكر يغير الواقع. هناك جدلية خلاقة تربط بين الطرفين. وأخيرا سأقول ما يلي: كلامي السابق لا يعني أنني أعتبر المرحلة الإخوانية بمثابة نهاية التاريخ، فما نعيشه الآن ليس إلا عبارة عن مرحلة انتقالية مترجرجة قبل أن يتثقف الشعب وينتصر التأويل المستنير للدين على التأويل القروسطي القديم. عندئذ سوف تشرق شمس الحرية فعلا على العرب وسوف يكون لكل حادث حديث.