التفاؤل بغير معطيات هو البلاهة بعينها

TT

في إحدى مراحل الحرب العالمية الثانية، واجهت البحرية البريطانية مشكلة كبيرة، هي أن الغواصات الألمانية كانت تفتك بسفنها بمعدلات عالية، وبدأ العلماء الإنجليز يفكرون ليل نهار في البحث عن وسيلة يحمون بها بحريتهم، وانهالت الأفكار، وعكف العلماء على دراستها جميعا مهما كانت جامحة الخيال، وجاءت إليهم فكرة بسيطة للغاية، ومؤثرة للغاية، وقادرة على تدمير الغواصات الألمانية ربما في لحظات، وهي.. تسخين مياه البحر إلى درجة الغليان، وهنا تعجز الغواصة عن تحمل درجة حرارة البحر فتضطر للطفو على سطح الماء حيث الهواء البارد المنعش، في هذه اللحظات تنقض عليها الطائرات البريطانية قاذفة القنابل تدكها دكا وتغرقها. استدعى العلماء في وزارة الدفاع صاحب الفكرة وقالوا له: «الفكرة ممتازة.. لكن السؤال هو: كيف يمكن تسخين مياه البحر؟»..

فقال: «أنا لست مسؤولا عن التفاصيل.. أنا مسؤول عن صحة فكرتي فقط»..

لعل ما ذكرني بهذه النكتة القديمة هو أن مصر تمر الآن بالظروف نفسها.. بالطبع لا توجد غواصات تغرق مراكبنا واحدا بعد الآخر، فنحن المصريين نقوم بهذه المهمة على خير وجه، نمزق أشرعة مراكبنا وعندما نكتشف أنها ما زالت طافية ننزل إلى قعرها ونخرمها بينما نصيح: «المركب بيغرق يا جدعان.. حد يلحقنا».

السؤال الشهير الآن الذي يوجه إليك في كل مكان هو: هل أنت متفائل..؟

كثيرون يوجهونه إليك بحسن نية وبرغبة حقيقية في معرفة ما تفكر فيه، ومنهم من ينصبه لك فخا، فلو اتضح أنك لست متفائلا فهذا يعني ببساطة أنك ضد الثورة، وبخبرتك القديمة مع ثورة يوليو (تموز) لا بد أن تفسر له حتى لا ينفجر في وجهك، وهنا تقول الشيء ونقيضه: «أنا متفائل غير أنني على وعي بأن ظروفنا هذه الأيام تدفع إلى التشاؤم وربما اليأس الشديد».

أعجبني اقتراح قدمه صاحبه في برنامج تلفزيوني لإقالة مصر من عثرتها: كل محافظة مصرية بها مكان جميل ساحر، تبيع هذا المكان بمليار جنيه فقط.. يا بلاش، وبذلك نحصل على خمسين مليار جنيه في أيام.

الاقتراح يتضمن درجة عليا من التفاؤل، غير أنه للأسف لا ينتمي للواقع، كما أنه منعدم الصلة بالخيال. الخيال يتطلب إدراكا واسعا لمعطيات الواقع، أي أن الواقع هو منصة إطلاق للخيال، وكما يقول بعض نقاد الفن، ما ليس واقعيا فهو ليس فنا. كل مشاكلنا واقعية بمعنى أنها تحدث لنا فعلا على الأرض، غير أنها في حاجة لقدر من الخيال لحلها، يقودنا ذلك إلى فهم المزيد عن العلاقة بين الواقع والخيال وبالتالي التفاؤل والتشاؤم. فإذا كان الواقع هو المنصة التي ينطلق منها الخيال، وإذا كنا نستخدم الخيال من أجل إصلاح الواقع، فلا بد أن هؤلاء المحرومين من الخيال عاجزون أصلا عن إصلاح الواقع.. عاجزون عن الإلمام بجزيئاته ومعرفة الخلل فيه. هم يعيشون على أرض الواقع فعلا غير أنهم عاجزون عن رؤيته.. هؤلاء عندما يعلنون عن تفاؤلهم فهم واقعيا يكشفون عن عجزهم عن التفكير.

دعنا نوسع قليلا من مجال اهتمامنا ونقل: لا يوجد أصلا في السياسة ما يسمى بالتفاؤل، وإن الأصل في التفكير الصحيح هو التشاؤم. من المستحيل أن تقوم بتغيير الواقع بغير إحساسك بالخطر، وهو ذلك الإحساس الذي يسمى التشاؤم. سأعرض عليك مشهدين واقعيين، أحدهما لاحتفال بسيط في التلفزيون يحضره رئيس الوزراء وعدد من الوزراء والمسؤولين ومندوب صندوق النقد العربي، بعد حصول مصر على قرض قيمته 200 مليون دولار بشروط ميسرة.. طبعا تستطيع أن تتخيل المجهود الذي بذله البشر في التفاوض والسفر والابتسامات والمساومات.. طب عشان خاطري.. هذا هو المشهد الأول، أما الثاني فهو للمسؤول عن ميناء دمياط الجديدة، وهو الميناء الذي يحاصره «نشطاء البيئة» الذين قطعوا كل الطرق من الميناء وإليه وتسببوا في كوارث اقتصادية في دمياط ورأس البر.. أعلن الرجل أن خسائر الميناء في عشرة أيام تقدر بنحو 75 مليون دولار، فالسفن معطلة عاجزة عن الدخول والخروج بما يترتب على ذلك من غرامات، وكما يقول: «أنا كل يوم الصبح كنت باودي ملايين الدولارات للبنك المركزي.. دلوقت مافيش ولا مليم».

أي أن الجهاز الحكومي المصري عمل بكل طاقته ليقترض 200 مليون دولار، وفي الوقت نفسه هو يترك «نشطاء البيئة» يدمرون جزءا مهما من سمعة مصر ومصادر ثروتها، ويمارسون الجريمة عندما يقطعون طريق البشر ويمنعونهم من أهم حقوق الإنسان وهو حرية المرور والانتقال من مكان إلى مكان. أي أن ستة أيام عمل في الميناء وحده كانت كفيلة بالحصول على المبلغ الذي احتفلنا بالحصول عليه. لقد استخدمت تعبير «نشطاء البيئة» انتظارا لتحقيق مسؤول نعرف منه ما هي حكاية شركة «أجريوم»، وما هي حكاية شركة «موبكو» التي اشترتها. لا بد أن هناك حكايات ليست لها صلة بالبيئة.

وكما أن الشعراء يتبعهم الغاوون، فنشطاء البيئة الثوار يتبعهم البلطجية.. لم تعد الطرق إلى رأس البر ودمياط الجديدة وبقية مصانع المنطقة الحرة مغلقة تماما. لقد أقام البلطجية لحسن حظك على الطرق بوابات لتحصيل الرسوم، تستطيع أن تمر من مكان لمكان أنت وبضاعتك بعد أن تدفع الرسوم التي يقررها عليك البلطجي.. أما إذا رفضت الدفع، أو دفعت بطريقة تخلو من اللياقة، أي أبديت بعض التذمر، فمصيرك معروف، علقة تنتهي بك إلى المستشفى، هذا إذا سمحوا لسيارة الإسعاف التي تحمل سيادتك بالمرور.

طوال الوقت كنت أتصور أن الانتخابات القادمة، مهما كانت نتائجها، تشكل بداية حقيقية على الطريق.. الآن أستطيع القول إن الانتخابات القادمة لن تحدث تغييرا من أي نوع في مصر، لن تكون نقطة بداية لشيء، بل مجرد نقطة. التغيير الوحيد هو أن عددا من البشر الذين كانوا يلتقون في الميادين والمظاهرات والاعتصامات ستكون لهم قاعة يلتقون فيها اسمها البرلمان، وما كانوا يفعلونه ببعضهم بعضا قبل الانتخابات سيعيدون عرضه تحت قبة البرلمان.. لن يكون هناك جديد في الأمر، لا أحد منهم ولا من الحكومة تشغله فكرة الدولة.

وفي البرلمان سيكتشف عدد كبير من البشر أنهم قد اشتروا الترام، لأنه في غياب دولة مؤسسات قوية ومنضبطة قادرة على الدفاع عن مواطنيها، لا أهمية لأي إنسان.. أما المكاسب فلسوء الحظ سيكتشفون أنهم تسلموا البلد بعد أن مصمصها الآخرون، ولم تعد لهم تلك الهالة المؤثرة التي حلموا بها طويلا. عندها سيتفرغون لمطاردة بعض الكتاب منفلتي اللسان، وبعض المطربين والمطربات منفلتي الأنغام، وتواكب ذلك كله حملات دائمة لمطاردة الفلول وتفتيش ملفاتهم العلنية والخفية. ولله الأمر من قبل ومن بعد.