الأقلمة في العراق: مشروع حل أم مشكلة جديدة ؟

TT

إن كان لدى البعض شك حول مدى تغير الأحوال في العراق فإن عليه أن يراقب الجدل حول موضوع الأقاليم الذي تناولناه في مقالة سابقة، ويقارنه بتاريخ العراق الحديث. صلاح الدين والموصل والأنبار هي المحافظات التي يتحدث مسؤولوها وقواها السياسية بحماس أكبر اليوم عن إقامة الأقاليم الفيدرالية، وفي حالة صلاح الدين فإن مجلس المحافظة قطع شوطا عمليا أطول حينما تبنى رسميا الإعلان عن سعيه لإقامة إقليم صلاح الدين. المفارقة أن هذه المحافظات الثلاث هي وحدها التي رفضت التصويت لصالح مشروع الدستور الحالي، وفي حالتي الأنبار وصلاح الدين كان الرفض بأغلبية الثلثين، ووقتها كان المبرر الرئيسي للرفض هو أن الدستور يضع أساسا لتقسيم العراق عبر إقراره للنظام الفيدرالي. تاريخيا كانت النخبة السياسية التي حكمت العراق في معظم زمنه المعاصر تنحدر من هذه المناطق، ومن المعروف أنها كانت تمثل اتجاها قوميا وحدويا إدماجيا حادا، بحيث أن نخبتها العسكرية والسياسية حكمت البلاد بعد 1963 تحت عنوان الوحدة، ووفق شعار توحيد الوطن العربي ورفض التجزئة الاستعمارية. هل يا ترى لو كانت نخب تلك المحافظات تسيطر على السلطة اليوم لكانت قد قبلت بفكرة الأقاليم وهي التي رفضت طويلا حتى فكرة الحكم الذاتي لكردستان؟؟ إذن هل يتعلق الأمر ببحث جدي عن حل لإشكاليات إدارية يواجهها العراق أم أنه سعي من بعض النخب في هذه المحافظات لتعويض عدم نجاحها في السيطرة على السلطة في بغداد؟.

في المقابل، تبدو القوى التي كانت قد تبنت موضوع الأقاليم وسعت لصياغته دستوريا ولمده إلى مناطق الجنوب قد تراجعت عن تلك المطالب اليوم وباتت تؤكد على وحدة البلاد ورفض الأقلمة. فإذا كانت النخب السنية تبنت فكرة الوحدة عندما كانت صاحبة السلطة في بغداد، فإن النخب الشيعية صارت تتبنى هذه الفكرة بعد أن أصبحت صاحبة السلطة في بغداد، نفس هذه النخب الشيعية كانت قبل بضع سنوات ترى في فكرة إقليم الجنوب حماية من استبداد سني جديد، فإذا بها تواجه اليوم بمطلب الأقاليم السنية المتذمرة من استبداد شيعي. يعني ذلك وبوضوح أن القضية هي قضية سلطة وليست قضية جماهير المحافظات كما يزعم البعض.

لكن إذا فهمنا الأصل الحقيقي لمطلب الأقلمة في الحالة الشيعية سابقا والسنية اليوم، يظل من المهم أن نتعامل مع تداعياتها المحتملة التي لا يبدو أن بعض المتحمسين لها قد فكروا مليا فيها. هنالك ميل غريب للاستسهال لحد أن يتصور البعض بأنه بمجرد تغيير الاسم من محافظة إلى إقليم فإن صلاح الدين ستغدو كردستان، ولن تستطيع الحكومة الاتحادية أن تقول شيئا بخصوص ما يحدث في داخل هذه القلعة الحصينة التي سيجت نفسها بتلك التسمية الإدارية: إقليم. الحقيقة أن علاقة كردستان ببغداد هي علاقة كونفيدرالية أكثر منها فيدرالية، فمن الصحيح أن بغداد لا تستطيع أن تقول شيئا في شؤون كردستان، لكن ذلك قد تحقق لسببين: الأول هو بحكم الخصوصية الاثنية والثقافية واللغوية لشعب كردستان التي كان من الطبيعي أن تترجم إلى خصوصية كيانية وإدارية وسياسية، وثانيا، لأن كردستان كانت أمرا واقعا قائما قبل إنشاء النظام العراقي الحالي.

ولكن لا يبدو أن الأمر مقتصر على الحلم بكردستان أخرى، فأحد كبار المسؤولين في محافظة صلاح الدين قال إنه بعد تحويل المحافظة إلى إقليم فإنهم سيجعلون منها دبي جديدة؟؟. لكن لم يخبرنا هذا المسؤول كيف يمكن له أن يبني دبي جديدة وهو لا يمتلك ميناء ولا نفطا ولا حاكما كمحمد بن راشد آل مكتوم، وما الذي سيجعل المحافظة مهيأة لوضع دبي الجديدة؟. صلاح الدين هي من أفقر محافظات العراق اقتصاديا وسيكون عليها أن تعتمد على عائد النفط الممنوح من السلطة الاتحادية والناشئ عن تصدير عوائد النفط من محافظات أخرى كالبصرة وكركوك. الغريب أيضا أن البعض شطح به التفكير حد أن تصور أنه سيقرر بنفسه تعداد سكان إقليمه وسيطالب بحصة من عوائد النفط تعادل العدد الذي قرره، وهنالك من يتحدث عن أربعة مليارات دولار لصلاح الدين، أي نحو 16 ضعفا مما يمنح للبصرة، المدينة التي تنتج أكثر من 80% من نفط العراق؟؟.

مثل هذا الطرح يحمل في طياته مخاطر جمة، أهمها أنه إذا ما تم التساهل والقبول بفكرة الأقلمة على هذا النحو، فإنه سيكون من الصعب أو المستحيل إيقافها طالما سيغدو معيار الجدل الرئيسي هو ما تريد أن تستحصله محافظة معينة من حصة مالية. من الطبيعي أن نخبا سياسية في محافظات أخرى ستلجأ إلى ذات الأسلوب، ومن الطبيعي أكثر أن أهل البصرة لن يقبلوا أن تمول مدينتهم الأقاليم الأخرى ويتم تهميشهم هم، وما زالت دعوة سابقة لإقليم بصري ماثلة في الأذهان. ربما يتمنى البعض أن يحصل عبر الأقلمة على عائد مالي من بعض الدول العربية أو الإقليمية، لكن هل يمكن لمثل هذا العائد المقترن بلحظة معينة وظروفها أن يغدو أساسا لبناء كيان جديد وضمان استمراريته؟؟، وإذا كان هؤلاء يأملون بدعم مالي خليجي فإن احتمالات هذا الدعم واستمراريته محدودة لسبب كثرة الملفات التي تتعامل معها دول الخليج نتيجة للانتفاضات العربية وللتحولات الكبيرة في بلدان مثل مصر واليمن وسوريا وغيرها.

يبدو أن طرح فكرة الأقلمة اليوم مقترن بعوامل شديدة الظرفية وبحسابات آنية، كما أنه يستهدف تحقيق الضغط السياسي على المركز مع اقتراب موعد الانسحاب العسكري الأميركي. لكن تصور أن ذلك يمثل حلا سحريا إنما هو تصور خاطئ ورغائبي، لا سيما إن جرت صياغته على هذا النحو من التبسيط والاستعجال. من بين المشكلات التي ستثار هي حدود الأقاليم، خصوصا في ظل الصراع بين كردستان ومحافظات أخرى حول المناطق المتنازع عليها، وإذا كان الهدف دفع الحكومة الاتحادية إلى رفع يدها عن شؤون الإقليم، فبأي صيغة ستدار هذه الملفات، وهل سنرقب حروبا بين الأقاليم وهدنات ووقف إطلاق النار ومناطق منزوعة السلاح؟. ثم إذا كان شعار «تهميش السنة» الذي تستخدمه بعض النخب السياسية مبررا للأقلمة، فكيف لا يصبح أيضا مبررا لاتحاد تلك الأقاليم بإقليم سني يضع أساسا للتقسيم الطائفي الحاد مع كل كوامن الصراع وذكريات العنف الأهلي والاستقطاب الإقليمي الحاد. سيؤدي ذلك حتما لإنعاش فكرة الإقليم الشيعي بالمقابل، وسيكون علينا مواجهة صراعات غير منتهية حول الحدود بين الإقليمين، وحول مناطق متنازع عليها، وارتباطات خارجية متعارضة ومتصارعة تكبح أي قدرة لدى المركز على تمثيل البلاد التي ستقسمها أيضا سياسات خارجية متعددة.