لا تتركوا النساء في الصف الأخير

TT

رموز جديدة للأمل فازت بها البشرية وعمت المعمورة في غضون الأشهر القليلة الماضية مع صور المواطنين في الدول العربية وهم يتولون شؤون مستقبلهم بأيديهم. وكانت النساء في طليعة هذه الفورة من الإرادة الشعبية المطالبة بالكرامة والعدل والفرص الاقتصادية لهن ولمجتمعاتهن. وبالطبع فإن النشاط السياسي للمرأة العربية لم يكن نتاج الأحداث الأخيرة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فالدعوات من أجل المساواة بين النوع من الممكن العودة لها تاريخيا إلى القرن 12 منذ أن جادل ابن رشد في أن الرجل والمرأة متساويان من كل جانب.

والواقع أن الحركة النسائية الحديثة في أوروبا وأميركا الشمالية كان لها نظيراتها في المنطقة. ومن المفيد التذكير بدور أول مفكر عربي إسلامي في العصر الحديث أثار قضية المرأة وربطها بنهضة الأمة وهو قاسم أمين عام 1899 في كتابه الشهير «تحرير المرأة» ودور المصلح التونسي طاهر حداد الذي دعا في أوائل الثلاثينات من القرن العشرين إلى توسع أكبر في حقوق المرأة مما ساهم في تعزيز الحريات التي وصلت إليها المرأة التونسية اليوم، وأن دولة تركيا منحت المرأة حق التصويت عام 1930 وحق الترشح عام 1934 وبذلك سبقت الكثير من الدول الأوروبية في هذا المجال.

وفي العقود الأخيرة لعبت المرأة أدوارا بارزة كمدافعة عن حقوق الإنسان وكناشطة من أجل الديمقراطية. وهكذا نشعر بالامتنان للمرأة لدورها في العمل الكبير الذي اضطلع به المجتمع المدني في العالم العربي. وقد دفعت الكثير من النساء المدافعات عن الكرامة والعدالة بالفعل في تونس ومصر وليبيا وغيرها من صحتهن وأحيانا من حياتهن نتيجة لشجاعتهن. وشاهدت الكثير منهن استهداف عائلتهن للقمع والعنف، وهكذا من خلال تضحياتهن استحققن أكثر من حقهن المتساوي في الاستماع لأصواتهن في عملية بناء مجتمعات جديدة أكثر ديمقراطية وعدالة. وقد اعترف المجتمع الدولي بالفعل في الشهور القليلة الماضية بالكثير من تلك النسوة اللاتي اخترن المضي قدما في معارضتهن للظلم والحكم الشمولي، ومن بينهن السيدة اليمنية توكل كرمان الحائزة جائزة نوبل للسلام عام 2011، والأستاذة أسماء محفوظ إحدى زعيمات حركة 6 أبريل (نيسان) في مصر والحاصلة على جائزة ساخاروف لعام 2011، والمدافعة التونسية البارزة عن حقوق الإنسان سهام بن سدرين الحائزة جائزة ابن رشد الثالثة عشرة. وهكذا أصبحت هؤلاء النسوة نماذج ملهمة للشابات والشبان في العالم العربي.

ومن المثير للاهتمام ملاحظة التشابه بين تاريخ فنلندا ومسارات التطور السياسي في العالم العربي. ففي زمن استقلال فنلندا عام 1917 واجهت بلادنا بطالة مستشرية، وفقرا ارتبط بالكساد الاقتصادي الناتج عن الحرب العالمية الأولى وعدم المساواة الاقتصادية التامة، وشعورا عميقا بالإقصاء السياسي لشريحة كبيرة من السكان، مما أدى إلى نشوب حرب أهلية دموية وقاسية فاقمت في تقسيم الأمة. لكن ما حول فنلندا من دولة فقيرة منقسمة ومتخلفة تنمويا إلى دولة ديمقراطية مستقرة يعود بصورة رئيسية إلى برنامج الإصلاح الاجتماعي الذي جرى تطبيقه في أعقاب الحرب الأهلية.

ولعبت النساء أدوارا رئيسية في كشف تلك الشرور الاجتماعية والعثور على وسائل للتعامل معها. وكانت النساء قادرات على طرح تلك القضايا للمناقشة ليس فقط في وسائل الإعلام بل أيضا بصفتهن كأعضاء في البرلمان. فقد اكتسبت النساء حق التصويت والترشح في الانتخابات عام 1906 كالأوائل في العالم وذلك يعود بصورة كبيرة لجهود لا تكل للنشطاء من الرجال والنساء في حركة حقوق المرأة. وقد ارتبط النجاح في التاريخ الاجتماعي الفنلندي لدرجة كبيرة بتحسين وضع المرأة والمساواة بين الجنسين. فقد سمحت إزالة العوائق المصطنعة المرتبطة بالنوع والمؤثرة على التطور الشخصي سواء في مجال التعليم والصحة والخدمات الاجتماعية والوصول لسوق العمل أو لفرص العمل التجاري الحر إلى تمكين النساء في أن يستخدمن كل قدراتهن الكامنة وتعميق الحوار السياسي بتقديم رؤيتهن الفريدة في القضايا المطروحة مما عاد بالفائدة على المجتمع كله بما فيهم الرجال.

وتولت النساء حتى الآن في فنلندا كافة أنواع المناصب السياسية الهامة بما فيها رئيسة البلاد ورئيسة الوزراء ورئيسة البرلمان ووزيرة الخارجية والمالية والدفاع. وفي الحكومة الحالية هناك 9 وزيرات من إجمالي 19 وزيرا. وفي البرلمان الحالي هناك 85 سيدة من إجمالي أعضاء البرلمان الـ200 وفي القطاع الاقتصادي الخاص ازدادت تدريجيا مساهمة المرأة في المناصب الرئيسية، لكن لا يزال هناك الحاجة لجهد أكبر أيضا في إزالة أي صور لعدم المساواة مثل سوق العمل.

وتلتزم فنلندا بقوة في سياساتها الخارجية والأمنية بدعم احترام حقوق الديمقراطية ووضع المرأة، ونحن نثمن للغاية المبادئ الدولية المتفق عليها الخاصة بالمساواة بين الجنسين، فبالإضافة إلى قيمتها الذاتية فهي أيضا تطرح بعض أهم الأدوات الناجعة لمواجهة التحديات المرتبطة بالتنمية. فمشاركة المرأة في عملية صنع القرار السياسي على قدم المساواة مع الرجل يتفق مع العدل والمنطق إذا كان الهدف هو تحقيق الاستقرار الاجتماعي والتنمية الاقتصادية الشاملة. فالدروس المستفادة التي تعلمناها من تاريخنا في فنلندا، وهي مشابهة لكل دول شمال أوروبا (الدنمارك وآيسلندا والنرويج والسويد) ونجاح ما يسمى بالنموذج الشمال أوروبي (نورديك)، تشير إلى أن النساء قادرات على طرح القضايا الرئيسية، ووجهات النظر التي دونهن لم تكن ستحظى بقدر من الاهتمام الذي تستحقه، فمن بين أهم القضايا إنشاء آليات تضمن شمولية التنمية الاقتصادية، وتساوي الفرص أمام كل المجموعات الاجتماعية، فالتنمية الاقتصادية الشاملة هي إحدى أحجار الزاوية للاستقرار الاجتماعي، والمساواة في المشاركة السياسية تتعدى مسألة حق التصويت وتخصيص مقاعد لهن في أجهزة صنع القرار، فهي تمتد إلى كل جوانب الحياة وتبدأ منذ الطفولة. فيجب منح النساء والرجال فرصا متساوية في اكتساب المعرفة والمهارات التي تسمح لهم بممارسة حقوقهم وواجباتهم كمواطنين، فالمشاركة المساوية للمرأة في عملية صنع القرار السياسي ليست أمرا مسلما به، فلا يكفي أن تغلف تلك المشاركة بصورة رسمية في الدستور أو القانون الانتخابي، فتحويل هذه المشاركة إلى واقع لكل النساء يتطلب اهتماما خاصا، وفي بعض الحالات آليات دعم محددة.

ومن المهم أن يدين الزعماء السياسيون دون مواربة وتأخير أي محاولات للحد من النشاطات الاجتماعية والسياسية للمرأة عن طريق استخدام التفرقة المبنية على النوع أو باستخدام العنف، وللأسف فإن تلك الظاهرة مستمرة في كل دولة من دول العالم. لقد تم الإقرار دوليا بدور المرأة في صنع السلام، وفنلندا داعم قوي لهذا الدور، فعلى سبيل المثال لا الحصر تقوم فنلندا بدعم تنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة رقم 1325 الخاص بالمرأة والسلام والأمن، فمشاركة المرأة دون أي عوائق في عملية صنع القرار السياسي تحظى بنفس القدر من الأهمية عندما يجري تعريف المكونات الأساسية للمجتمع، فيجب أن تحظى المرأة بنفس القدر في التعبير في عملية إنشاء الدساتير ووضع تقسيم السلطات بين سلطات الدولة، وتعريف تقسيم العمل بين القطاع الخاص والعام، وفي تبني أهداف السياسات الاجتماعية والاقتصادية، وخلق آليات التعامل مع توزيع الدخل.

إن المنطقة العربية لا تعدم من أفكار وإلهامات والتزامات. فمفاتيح مستقبل أفضل في أيدي مواطني الدول الشريكة أنفسهم. ودورنا كشركاء هو الاستماع إلى النساء والرجال العاملين في مجال الإصلاح وتسهيل عملهم وتقديم المساعدة أينما ومتى طلبت. ونذكر مثالا واحدا، فأحداث الأشهر الماضية كشفت مهارات شباب وشابات تونس ومصر وغيرهم في العالم العربي في استخدام أدوات الاتصال الحديثة ومنها شبكات الاتصال الاجتماعي. فقدرة الوصول إلى واستخدام المعلومات وتكنولوجيا الاتصالات وأيضا إنتاج وتوزيع محتواها أصبحت ذات أهمية متزايدة للنشاط السياسي، بالإضافة إلى أنهم يقدمون حلولا إبداعية تسهل على النساء والرجال التوفيق بين الحياة الأسرية ومتطلبات سوق العمل.

وفي استجابة للإصلاحات قررت فنلندا مضاعفة الأموال المخصصة للتعاون مع منطقة شمال أفريقيا والشرق الأوسط للأعوام 2012 - 2015. ومن بين القطاعات التي ستحظى بالأولوية دعم المجتمع المدني ومساعدة التنمية الاقتصادية الشاملة وتقوية الديمقراطية وحكم القانون، وستستمر فنلندا في إعطاء اهتمام خاص لوضع المرأة بما فيها المشاركة السياسية والتمكين الاقتصادي. ونحن نملك تاريخا طويلا من التركيز على التعاون مع الحكومات والمنظمات الساعية لتحسين وضع المرأة ورفاهية الأسر. فدول شمال أوروبا لديها تاريخ طويل من التعاون الوثيق، ومع تعبئة مواردنا والاتفاق على تقسيم العمل سيكون لدينا تأثير أكبر بكثير مما نستطيع القيام به كدول منفردة. وننوي تطبيق هذا المدخل أيضا في دعم عمليات التحول في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ففي ضوء الخصائص التاريخية والسياسية لبلادنا ليس مفاجئا أن كل دول الشمال الأوروبي تركز على أهمية دور ووضع المرأة في عمليات التحول، ونناقش حاليا كيف نستخدم بصورة أفضل الدعم الذي نقدمه للدول الشريكة لنا في العالم العربي.

إن سهام بن سدرين وأسماء محفوظ وتوكل كرمان ومثلهن آلاف من النساء والرجال يمثلون رموزا قوية لقوة دفع لا تقاوم من أجل حياة أكثر عدلا وكرامة ومساواة. فالتحول الذي بدأ في تونس ثم تواصل في مصر وليبيا وأماكن أخرى في العالم العربي هو فقط البداية التي ستهز العالم. فالحكومات الجديدة المنتخبة ديمقراطيا ستؤثر بعمق على الحراك في المحافل الدولية وتقوي من احترام حقوق الإنسان والديمقراطية في جميع أنحاء العالم، وفنلندا ملتزمة بالتعاون مع شعوب وحكومات المنطقة، فنحن نتشارك في هدف واحد هو تأكيد أن احترام حقوق الإنسان والدعوة للديمقراطية ستقود المنطقة والعالم كله إلى مستقبل أفضل.

* وزير خارجية فنلندا